بعد أولى جولات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، سيطر على النقاش العام في لبنان، مجدداً، حيّز تقني ماليّ. وبينما طُعّمت خطّة «التعافي المالي» الحكوميّة ببعض بأفكار وبنود متعلّقة بتفعيل الاقتصاد الكلّي وتحويله من الريعي إلى المنتج، لم تتطرّق المفاوضات مع الصندوق إلى هذه المسألة. وتمحور تركيز غالبية المحللين حول ما طرحه الوفد اللبناني مقابل ما طلبه ممثلو صندوق النقد ليصبح الشقّ الاقتصادي المتمّم للخطة خارج الضوء رغم أنه لا يقلّ أهمية عن الشّق التقني الماليّ. صحيح أن الشقّ الأخير يمهّد لمعالجة التبعات المباشرة للأزمة والانهيار، إلّا أن النقاش في مستقبل النموذج الاقتصادي يؤسّس للتعافي في المديين المتوسّط والطويل. إنّما النقاش في أيّ نموذج اقتصادي يجب تكريسه يعدّ مسألة معقّدة بسبب طبيعة تشكّل الكيان السياسيّ الذي وُحّدت فيه مجموعة مناطق كانت علاقاتها الاقتصاديّة (إنتاج وتجارة وعمالة) ضمن حيازات جغرافية متنوّعة وغير مرتبطة ببيروت وجبل لبنان، أي قلب الكيان. وبالإضافة إلى هذه الطبقة العميقة من التعقيد، توجد طبقة سطحيّة تمثّلها الأزمة الراهنة (بشقّيها المالي والاقتصادي) وما قد ينتج عنها من انهيار. بسبب هذه التعقيدات، لا طائل من أيّ نقاش كلاسيكيّ في بنية النظام الاقتصاديّ اللبناني، بل الأجدر البحث عبر مقاربة سياسيّة تتحدّى المشكلة الأصلية، أي تشكّل الكيان وما رافقه من تحدّيات تاريخيّة وجغرافيّة. يمكننا الولوج إلى مقاربة كهذه عبر اتّباع منهج يعتمد الاقتصاد الجغرافيّ السياسيّ.
مقاييس جغرافية
الاقتصاد الجغرافي السياسيّ ينطلق من تصوّر أن الرأسماليّة نظام اقتصادي غير مستقرّ ولا يسمح بتطوّر متوازن جغرافيّاً. بحسب إيريك شيبارد، في «الاقتصاد الجغرافي السياسي»، فإن لهذا المنهج ثلاث ركائز:
- الأولى، هي أن الرأسماليّة واحدة من بين طرق كثيرة أخرى لتنظيم الضرورات الاقتصاديّة في أي مجتمع (إنتاج الفائض وتوزيعه على المشاركين في عملية الإنتاج والمراكمة، وعملية إعادة الإنتاج...)، وهي ليست بالضرورة أفضل طريقة تنظيم رغم أنّها المهيمنة.
- الثانية، هي أن الجغرافيا ليست عاملاً خارجياً في الاقتصاد، ولا تشكّل قيداً على الاحتمالات الاقتصاديّة. ولكن الجغرافيا تُصنع جنباً إلى جنب مع النشاطات الاقتصاديّة، لينتج عنهما فضاء يحدّد بدوره مسارات جدلية اجتماعيّة.
- الثالثة، هي أن العمليات الاقتصاديّة يجب أن تُدرس من خلال علاقتها بعمليات الفيزياء الحيويّة والعمليات الثقافيّة وتلك الاجتماعيّة، ومن خلال مراقبة كيفيّة تطوّر هذه العمليات كلّها مع بعضها البعض.
في هذا الإطار، يبدأ الاقتصاد الجغرافي السياسيّ عند لحظة تخصيص الرأسماليّ لرأس المال بغرض إنتاج السلع وليس عند لحظة تبادل السلع. ويتخلّل عملية إنتاج السلع تحويل الموارد الطبيعيّة (وهي بناء اجتماعي بحدّ ذاته) إلى أشياء ماديّة وغير ماديّة قابلة للتبادل وينتج عن تبادلها أرباحاً. وبذلك تكون عملية الإنتاج مترابطة مع عمليات فيزيائية حيويّة وثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة، فضلاً عن أنّها تفترض مسبقاً تسليع الطبيعة. وهكذا تسليع عادة يكون من خلال السلب أو انتزاع الملكيّة، ما يتطلّب عمليّة سياسيّة ذات اختلال في موازين القوى التي تمارس عملها من خلال مجموعة متنوعة من المقاييس الجغرافيّة. وهذا الاختلال في موازين القوى يحدّد من يسيطر على أيّ موارد طبيعيّة. وكذلك تتحكّم بشكل الإنتاج ماديّة البشر المسلّعين المشاركين في عمليّة الإنتاج. وعمليّات إنتاج السلع بهذا الشكل، بالإضافة إلى المعرفة بوجود وحجم الأرباح، تخلق فضاءات جغرافيّة متحرّكة ومعقّدة، تتحرّك من خلالها سلاسل إنتاج السلع، بالإضافة إلى اليد العاملة.
انطلاقاً من هذا الشرح تصبح عملية إنتاج السلع عملية تغيّر، وتؤثّر في المزارع والمصانع والمكاتب والمناطق والدول. والتعامل مع عملية الإنتاج على أنها عملية تحوّل من مجموعة عوامل محصاة بشكل مجرّد إلى كمّيات من السلع، يؤدّي إلى الاستهتار بالعوامل الماديّة وعامل عدم اليقين الناتج عن عوامل الزمان والمكان التي تصاحب الإنتاج. وبما أنّ مراكمة رأس المال تنتج دائماً اختلالاً في التطور على الامتداد الجغرافيّ، فإنّ المناطق غير المستفيدة ستسعى إلى تطوير مسارات بديلة رغم أنّ الذين حقّقوا النجاح يفترضون أن نموذجهم يمثّل الوصفة الناجحة.

سرديّة كاذبة
في هذا السياق يمكن تفسير الأزمة اللبنانية وامتداداتها بشكل أعمق. فلبنان بلد لا ينتج، سواء سلع ماديّة أو غير ماديّة. خلال الأعوام الثلاثين الماضية دُمّرت القطاعات بشكل ممنهج، ولم يبقَ سوى عملية ماليّة وحيدة قوامها إعادة تدوير الدين وزيادة مطلوبات المصارف (الودائع) لتمويل الاستهلاك. ما يعني أنّ القسم الأعظم من قطاع الخدمات أصبح في خدمة الاستهلاك من خلال سلع وخدمات مستوردة. تدمير الإنتاج بهذا الشكل، دمّر الفضاء الذي تؤمّنه عملية الإنتاج. وهذا الفضاء مشوّه أساساً، بسبب العوامل السياسيّة التي حكمت تشكيل الكيان، وبالتالي حكمت قدرة عمليّات الإنتاج المحليّة على الوصول إلى شتّى أنواع الموارد.
إذا دقّقنا في السرديات التي شرّعت وبرّرت تشكيل الكيان اللبناني، سنجدّ سرديّة أساسيّة تستمد من التاريخ، شرعية وجدوى اقتصاديّة. فقد اخترع المُنادون بصناعة الكيان اللبناني، الكيان التاريخي «فينيقيا»، ليبرّروا سلخ المناطق التي ضُمّت إلى الكيان عن الفضاء الإنتاجي الذي انتمت إليه تاريخيّاً. وبُنيت هذه السردية على نجاحات التجار الفينيقيين الذين لعبوا دور الوسطاء ونقلوا مختلف البضائع من بلدان إلى أخرى، بينما كانت «فينيقيا» كياناً احتلّ جزءاً من الشريط الساحلي السوريّ بين عكّا وأنطاكية، وتميّز سكّانه بأنّهم يجيدون الإبحار وبوصولهم لخشب الأرز لصناعة سفنهم.
المشكلة أن هذه السرديّة غير حقيقيّة. فالكنعانيون الذين سكنوا الساحل السوريّ لم يشكّلوا كياناً سياسيّاً موحّداً أبداً. والمصادر التاريخيّة الوحيدة التي ذكرتهم تحت تصنيف واحد هي تلك الإغريقيّة، وهي متأخرة نوعاً ما. أمّا المصادر التاريخيّة المبكّرة، سواء المصريّة أو الفارسيّة، فتتعامل مع الفينيقيين كممالك متعدّدة ومشتّتة، تتنوع اصطفافاتها السياسيّة بين القوى الكبرى المحيطة فيها.
ويشرح ريتشارد مايلز، في كتابه «قرطاجة يجب أن تُدمّر»، أن أهم فترات ازدهار هذه المدن كانت بين القرنين العاشر والخامس قبل الميلاد. وتمحور هذا الازدهار حول مدينتين-مملكتين: صيدا وصور. ولم يكن أهل هاتين المدينتين بحّارة ممتازين فقط، بل كانوا حرفيين منتجين على مستوى عالٍ. فبالإضافة إلى إتقانهم صنع السفن التي تمكّنت من الإبحار في عواصف البحر المتوسط، أتقنوا شتّى أنواع الصناعات المعدنية من المجوهرات حتى الأسلحة والمعدّات الحربية، والفخار والزجاج. كما يكشف اعتماد الأبنية ذات الطوابق المتعدّدة في مدينة صور، أنّهم كانوا بنّائين على مستوى عالٍ أيضاً. أساس نجاح تجارة المدينتين كان إتقانهما إنتاج السلع وبكمّيات كبيرة، بالإضافة إلى صنع السلع بما يتناسب مع رغبات المستوردين من مصر وبلاد ما بين النهرين. وقبل كلّ شيء هم تاجروا بسلعهم ومن ثمّ بسلع الآخرين.
لا يمكن بناء نموذج اقتصادي منتج بلا خريطة الموارد للجغرافيا القريبة


لكن كما يشرح ميلز، طرق التجارة الأساسيّة لفينيقيي صيدا وصور كانت شرقاً، وخصوصاً بعد ضمور الدور المصري. ومع صعود الإمبراطورية الآشورية الجديدة، وصلت تجارة الفينيقيين إلى شمال الجزيرة العربية والشمال السوري والأناضول، بالإضافة إلى بلاد ما بين النهرين. وفي هذه الفترة وجد الصوريون أنفسهم مضّطرين للتوسع غرباً تلبية للطلب المتزايد للإمبراطوريّة الآشوريّة، فبدأوا بإنشاء المستعمرات في قبرص وجنوب الأناضول ورودوس وحتى في البر اليونانيّ ثم السواحل الشمالية لأفريقيا. ومع الوقت امتدّت المستعمرات إلى غرب إسبانيا على المحيط الأطلسي (قادش). الهدف من إنشاء هذه المستعمرات كان استيراد المواد الأوليّة من المعادن لتصنيعها. وحتى بعد صعود الإمبراطورية الإخمينيّة ووصولها إلى سواحل المتوسط، استمرت استفادة المدينتين من الفضاء الجغرافي نفسه، لكن مع أسبقية لمدينة صيدا في هذه الفترة، كما يشرح فاديم يغولوف في كتابه «التاريخ الاجتماعي لفينيقيا الإخمينيّة».
إذاً سردية الكيان التاريخي الذي لعب دور الوسيط التجاري وازدهر من «السمسرة»، هي سردية مغلوطة. ومن دون الغوص في نوايا صانعيها، لا بد من التركيز على أن الكيانات التي ازدهرت في هذا الشريط الساحلي قبل آلاف السنين ازدهرت لأنها أتقنت مجموعة واسعة من الحرف والصناعات. وازدهرت أكثر لأنها أجادت الاستفادة من البنى الاجتماعية والاقتصادية التي أمنتها الكيانات السياسيّة الكبرى في محيطها الشرقيّ، ولأنها أضافت إلى هذه البنى سلاسل توريد وإنتاج امتدّت على امتداد جزر وسواحل البحر المتوسّط. ولم يكن الازدهار مبنياً على إتقان لعب دور الوسيط، وعلى الإبحار غرباً.

نحو فضاء جديد
في خضم النقاشات حول مستقبل النموذج الاقتصادي اللبناني، سيحاول الذين استفادوا من سياسات السنوات الثلاثين الماضية، أن يعيدوا طرح دور لبنان كحلقة وصل أو كمركز ماليّ أو خدماتيّ في سبيل الحفاظ على قليل من المكاسب التي حقّقوها. ستكون محاولة استنساخ تجربة وظيفة الوسيط التي فشلت فشلاً ذريعاً. هذه التجربة أثبتت أنّها لا يمكن أن تدعم اقتصاداً منتجاً ومزدهراً يحافظ على البنية السكّانيّة والاجتماعية. لم يعد بالإمكان تجاهل دراسة الجغرافيا والعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية المصاحبة لها، وبالتأكيد ليس ممكناً تجاهل ما هو متوافر من موارد وعند من. بالإضافة إلى ذلك لا يمكن بناء نموذج اقتصادي منتج وخصوصاً في لبنان الذي تفصله هوّة إنتاجية كبرى عن محيطه، من دون دراسة الخرائط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وخريطة الموارد للجغرافيا القريبة.