من إيجابيّات خطّة الحكومة اللبنانية «للتعافي المالي» تشخيص أسباب الأزمة اللبنانيّة بشكل دقيق. ما عُرض في الخطّة من أسباب للأزمة يلقي اللوم على معظم الجهات السياسيّة الفاعلة في لبنان منذ عام 1992 إلى اليوم، فضلاً عن مجموعة من القطاعات الاقتصاديّة التي استفادت من السياسات المالية والاقتصادية لتسيطر تدريجاً على الاقتصاد الوطني. ومن بين الكثير من الاختلالات التي أتت الخطة على ذكرها، يمكن الادّعاء بأنّ تثبيت سعر الصرف هو السبب الرئيسي الذي أثّر في حجم الاختلالات الأخرى. اختيار تثبيت أو تعويم سعر صرف العملة المحلّية من أهمّ العوامل المحدّدة للاقتصاد السياسيّ في أيّ دولة. في لبنان خيار تثبيت سعر الصرف كان عاملاً رئيسياً في تركيبة النظامَين السياسي والاقتصادي لما بعد الطائف. لذا، فإنّ طريقة التعامل مع سعر صرف الليرة خلال هذه الأزمة ستلعب دوراً رئيسيّاً في رسم معالم النظام الذي سيلي الأزمة أو الانهيار.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

اليوم، الخيارات محدودة أمام الحكومة للتخلّص من عبء التركة الثقيلة لتثبيت سعر صرف الليرة على مدى العقود الثلاثة الماضية. فتثبيت سعر الصرف الاسميّ للعملة يحتاج إلى تدخّل مستمر من قِبل مصرف لبنان عبر ضخّ ما يطلبه السوق من عملة صعبة (دولار في أغلب الحالات)، لمنع انخفاض قيمة العملة المحلّية. أو يتدخّل من خلال امتصاص السيولة بالعملات الأجنبية من السوق لمنع تضخّم سعر صرف العملة المحلّية. في كلتا الحالتين، يحتاج مصرف لبنان إلى احتياطات كبيرة بالعملات الصعبة لممارسة التثبيت على قيمة محدّدة.
إزاء ما هو ظاهر من استنزاف مصرف لبنان لاحتياطاته من الدولار، لم يعد بإمكانه تثبيت سعر الصرف عند 1507.5 ليرات وسطياً للدولار الواحد. وما تشهده الأسواق اللبنانية منذ أيلول الماضي هو تعويم غير رسمي لسعر صرف الليرة اللبنانيّة. كذلك، بات اللبنانيون يستهلكون السلع والخدمات المستوردة (ما عدا تلك المدعومة) على سعر صرف السوق الذي يتحكّم به شحّ الدولارات في الدورة الاقتصاديّة. لذا الخيارات محدودة، وهي لن تكون خارج نطاق السلع التي ستدعم الدولة اللبنانية مستقبلاً.

سعر الصرف: سياسة واقتصاد
لا بدّ من الإضاءة على التشابك بين سعر صرف العملة المحليّة، كأداة نقديّة، وعلى الاقتصاد الكليّ والحياة السياسيّة أيضاً. فمن بديهيّات الاقتصاد أنّه كلّما انخفضت قيمة العملة المحلّية ازدادت تنافسية السلّع المصنّعة محلّياً. انخفاض قيمة العملة يعني انخفاض قيمة الأجور والمواد الأوّلية محلّية الإنتاج نسبة إلى العملات الأجنبية التي سيتمّ استبدال البضائع من خلالها. هذا يعني أنّ سعر البضائع المحلّية سيكون أرخص حين تصدّر إلى الخارج. في المقابل، إن ارتفاع سعر صرف العملة المحلّية يعني تجميد أو خفض التضخّم على المستهلكين ويتيح لهم الاستهلاك بكلفة أقل نسبياً، أي إنه يرفع مستوى المعيشة.
في 1991 اتّبعت الأرجنتين نظام صرف ثابّت للعملة المحلّية فأدّى إلى دولرة الدين العام واستعمال أموال المودعين والضمان الاجتماعي لتمويل كلفة التثبيت قبل أن ينهار في 2002


يوضح بروك بلومبرغ وجيفري فرايدن وإرنيستو ستاين، في بحثهم «الحفاظ على ثبات سعر الصرف: الاقتصاد السياسي لتثبيت سعر الصرف في أميركا اللاتينية»، أنّ التعامل مع تحديد آليات التحكّم بسعر صرف العملات المحلّية، هو عملية مقايضة بين تنافسية الإنتاج المحلّي وقدرة المواطنين على الاستهلاك. ففي اقتصاد نامٍ أو ضعيف، يكون تعويم سعر الصرف وانخفاض قيمة العملة، عاملاً مساعداً للمنتجين المحلّيين على تصدير إنتاجهم وتحقيق أرباح أعلى؛ ينجم ذلك عن تحويل إيراداتهم من الدولار إلى العملة المحليّة. لذا يضغط المنتجون، بالأخص الصناعيين بينهم، دائماً، في اتّجاه خفض قيمة العملة المحلّية. وفي المقابل يستفيد المواطنون من تثبيت سعر صرف العملة المحلّية على قيمة مرتفعة عبر رفع القدرة الاستهلاكية.
لكن لابدّ من الإشارة إلى أن سياسات تثبيت سعر الصرف تكون، عادة، مؤقّتة ومرتبطة بأهداف سياسيّة بحتة أو بالاقتصاد الكليّ. لذا، فإن محاولة استدامة تثبيت سعر الصرف من دون مشاكل وتبعات سلبية على الاقتصاد، صعبة جداً، باستثناء حالات الدول التي يعتمد دخلها أساساً على الموارد الطبيعيّة.

العقد الاجتماعي الأرجنتيني
في لبنان، اتّخذ تثبيت سعر صرف الليرة طابعاً دائماً. ولم يأخذ في الاعتبار قدرة الاقتصاد اللبناني على الحفاظ على احتياطات مصرف لبنان بالدولار. هذا الأخير موّل تثبيت سعر الصرف عبر أموال المودعين. هنا يمكن التطرق إلى تجربة الأرجنتين المشابهة لجهة محاولة استدامة تثبيت سعر الصرف. فالأرجنتين اتّبعت نظام صرف ثبّت سعر صرف العملة المحلّية عند بيزو واحد للدولار. ويأتي هذا التثبيت منذ 1991 رغم مساوئ التثبيت الدائم في اقتصاد يعتمد على التبادل التجاري مع دول محيطة ذات عملات متقلّبة الأسعار نسبة للدولار. كانت هذه الخطوة ردّة فعل قاسية على التضخّم المفرط وانهيار سعر صرف البيزو عدّة مرّات في ثمانينيات القرن الماضي. وبحسب أوغوستو ديلاتورّي وإدواردو يِياتي وسيرجيو شمكلر، في ورقة بعنوان «العيش والموت مع تثبيت سعر الصرف المفرط»، فإن تثبيت سعر الصرف في الأرجنتين كان جزءاً من العقد الاجتماعي ومحوراً أساسياً في علاقة الدولة مع القوى المنتجة في تلك الفترة حتى أصبح التثبيت مؤسّسة رئيسية في الحياة السياسية والاقتصادية للأرجنتين، وعقداً أساسياً حاكماً اعتمدت عليه العلاقات الاجتماعية والمالية.
بنتيجة التثبيت، توحّد القطاع المصرفي الأرجنتيني وحوّله إلى قطاع دوليّ، علماً بأن المؤسّسات المالية لم تتطور وبقيت ضعيفة. ومع الوقت جرت دولرة الدين العام الأرجنتيني والاستعانة بأموال المودعين ومؤسسات الضمان الاجتماعي لتمويل كلفة التثبيت. إلّا أنه في النهاية انهار نظام التثبيت في عام 2002، واندلعت أعمال شغب بسبب فرض المصارف الـ«كابيتال كونترول»، وتغيّرت الخريطة السياسيّة في الأرجنتين.

تجديد العقد
في هذا السياق التاريخي يمكن قراءة ما حصل في لبنان منذ عام 1992. فلا يمكن، عند دراسة تأثير تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة على رفع مستوى المعيشة عند اللبنانيين، إلّا تفسير هذا القرار بأنّه دعم للاستهلاك وسهولته لأهداف شعبويّة. خصوصاً أن سياسة تثبيت سعر الصرف لم تكن مؤقّتة في أيّ يوم من الأيام، لا بل رُوّج لها على أساس أنّها دائمة. وعلى هذا الأساس، جرت مقايضة الإنتاج والقطاعات المنتجة مقابل حصول حكومات الرئيس رفيق الحريري على الشرعية الشعبيّة الناتجة من رفع مستوى المعيشة والاستهلاك.
رغم ذلك، لم نرَ أصحاب القطاعات المنتجة يعترضون بوضوح في مطلع التسعينيات، ولم يشكّلوا مجموعات ضغط لمواجهة سياسة التثبيت الدائم الذي ألحق أضراراً كبيرة بقدرتهم التنافسية المحلية والخارجية. ورغم الدمار الناتج عن الحرب الأهليّة، إلّا أنّ الكثير من القطاعات المنتجة في لبنان كانت لا تزال تملك مرونة كافية للاستمرار والنجاة خلال أصعب سنوات الحرب. إلّا أنّها ما لبثت أن اختفت تدريجيّاً بعد 1992. أصحاب هذه القطاعات استفادوا من سياسات ما بعد 1992 عبر تضخّم أسعار العقارات وقطاع البناء. تحوّلوا من منتجين إلى تجّار عقارات ومنشئي أبنية. أصبح الريع الناتج من هذه التجارة، سواء استثمروا فيها بالكامل أو شاركوا بحصص فيها، أكثر ربحية من الإنتاج. ومع ارتفاع أسعار الفائدة على سندات الخزينة والودائع، أصبح الاستثمار في الإنتاج أقلّ جاذبيّة.
هكذا شكّل تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية، في الأعوام التي تلت عام 1992، محور العقد الاجتماعي بين السلطة والمواطنين والقطاعات المنتجة. حكومات الرئيس الحريري بَنَت شعبيّتها على أساس مستوى معيشة واستهلاك مرتفع على أنقاض قطاعات منتجة ارتضى أصحابها استبدال أرباحهم بريوع العقارات وسندات الدين. وموّل مصرف لبنان سعر الصرف الثابت، واستهلاك اللبنانيين، بالاستدانة بداية، ثم من أموال المودعين.
بانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية اليوم، انهار العقد الاجتماعي الذي أبرمته سلطة عام 1992 مع اللبنانيين. ويحاول المستفيدون من الريع خلال العقود الثلاثة الماضية، من جهات سياسية واقتصادية، إعادة إنتاج العقد الاجتماعيّ نفسه إنّما بكلفة أعلى بكثير هذه المرّة. يستعملون اليوم أدوات اللعب على وتر قدرة الاستهلاك بعنوان «مستوى الحياة الذي اعتاد عليه اللبنانيون». اليوم تحديداً، يجب ألّا تنطلي هذه الخدعة على اللبنانيين لأن «مستوى حياة اللبنانيين» كبّد المجتمع خسائر مباشرة بقيمة 83 مليار دولار، بالإضافة إلى تهجير أبنائهم إلى الخارج بعد تدمير القطاعات المنتجة. لذا، يجب أن يتمحور البحث في تعويم سعر الصرف حول حماية الطبقات الأضعف، وأثره على الاقتصاد الكلّي، وليس حول كيف نجتذب القروض لتمويل الاستهلاك للحفاظ على أسلوب حياة وهميّ.