في «كيمياء» العالم المصرفي والمالي، كلامٌ عن «تبخّر» أموال و«اضمحلال» رؤوسها. وفيها أيضاً تعبيرٌ عن قاعدة مفادها أن «المادة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم، لكنها تتحول من شكل إلى آخر». وقد صدق أبو الكيمياء الحديثة أنطوان لافوازييه (1743-1794) وكأنه في نبوءةٍ عمّا آلت إليه الودائع المصرفية، أو بعضها، عندنا... ففي التحوّل الكيميائي القسري الكبير، من وديعةٍ مملوكةٍ وسيّدة إلى وديعةٍ محجوزةٍ ومقيّدة، يفرضُ سؤالٌ ذاته حول المسؤوليات الائتمانية في المنظومة المصرفية: كيف تتدرّج هذه المسؤوليات؟ ما أسُسُها؟ وما النتائج المترتبة جرّاءها؟
■ ■ ■


تحديد الإطار: من هم اللاعبون/ المسؤولون؟
تدور الوديعة في فلكٍ يتقاسمه لاعبون ثلاثة:
- المودع (صاحب الوديعة)، وهذه الأخيرة قد تكون في حسابٍ جارٍ أو في حساب ادّخار أو توفير (لأجَل) أو في حسابٍ ائتماني (fiduciary). ومهما يكن من أمر، فالوديعة هي «عقد بمقتضاه يتسلم الوديع من المودع شيئاً منقولاً ويلتزم حفظه وردّه (...)»، بحسب المادة 690 من قانون الموجبات والعقود، وتخضع الوديعة لأحكام المادة 307 من قانون التجارة.
- المصرف، وهو «المؤسسة التي موضوعها الأساسي أن تستعمل لحسابها الخاص في عمليات تسليف، الأموال التي تتلقاها من الجمهور»، بحسب المادة 121 من قانون النقد والتسليف.
- المصرف المركزي، وهو «شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي». يُعتبر مصرف لبنان الهيئة الناظمة للقطاع المصرفي وتؤدّي لجنة الرقابة على المصارف دوراً محورياً في مراقبة أداء المصارف.
■ ■ ■


تحديد منشأ المسؤولية وأساسها
- بالنسبة إلى المودع، تقتصر مسؤوليته على التنبّه لشروط عقد فتح الحساب وعلى كون الأموال التي ستودع فيه أموالاً مشروعة ومعروفة المصدر. والمودع هنا هو «المستهلك»، والمصرف هو «المُحترِف» بمفهوم قانون حماية المستهلك. وقد «أتى المشترع ليحدّ من هذه الحرية التي تنعم بها المصارف، إذ نصّ خاصة على الأحكام التي تتعلق بانتظام سير عملها والموجبات الملقاة على عاتقها بما يضمن حقوق المودعين وأموالهم» (هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، استشارة رقم 150، تاريخ 06/02/1979، صادر وبريدي، المجلد 13، ص 13313).
- أما المصرف، فهو «مؤتَمن على أموال عميله التي لا يجوز أن تُبدّد من غير إرادة هذا الأخير» (محكمة استئناف بيروت، قرار رقم 709، تاريخ 02/04/2002، مجلة العدل 2002، ج 2 و3، ص357). ومسؤوليته هنا ناشئة عن العقد المبرم مع المودع العميل، وإنما أيضاً عن كون العمليات المصرفية ذات طبيعة ائتمانية. وإلى الائتمان، يُضاف موجب إعلام العميل (L’obligation d’information) لا سيما بالمخاطر، كما موجب التدقيق في مكانة المستدين وملاءته. فما الحال إذا كان المدين برتبة دولة؟ وما مسؤولية المصارف جرّاء إقراض الدولة اللبنانية؟ وهل طبّقت المصارف اللبنانية (ولا نعمّم) مقررات وتوصيات «بازل» ذات الصلة التي تقوم على أساس تناسب مستوى الأموال الخاصة للمصرف المعني مع القروض والتسليفات التي يمنحها؟ علماً بأنه من اللافت أن تكون اتفاقية «بازل 2» قد تطرّقت إلى مخاطر التشغيل وفرضت تأمين الحدّ الأدنى لاستيعاب الخسائر الناشئة عن الأزمات الطارئة، كما فرضت شفافية المعلومات للسوق.

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

- أمّا مصرف لبنان، فمسؤوليته ناشئة عن أحكام قانون النقد والتسليف (إضافة إلى نصوص أخرى لا مجال لتفصيلها هنا) التي تجعله بمثابة هيئة ناظمة للقطاع المصرفي، وهو يمارس صلاحياته مباشرةً عبر الحاكم والمجلس المركزي، وكذلك عبر لجنة الرقابة على المصارف، وصولاً إلى الهيئة المصرفية العليا. ولا بدّ من الإشارة إلى أن مصرف لبنان يكتسب، بحكم القانون، صفة التاجر في بعض النواحي من تعاملاته مع الغير (المادة 13)، أي يجب التمييز بين مسؤوليته كمصرفٍ يُجري عمليات مصرفية عادية، وبين مسؤوليته كمرجعية ناظمة للنقد والمصارف والمؤسّسات المالية، مع ما يستتبع ذلك من اختصاص للقضاء العدلي أو الإداري بحسب الحالات (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 278، تاريخ 15/02/1995، مجموعة القضاء الإداري، العدد 8، المجلد 1، ص 313).
- يبقى أن نشير أيضاً إلى مسؤولية تترتّب على الدولة التي غالباً ما يتم تغييبها عن المشهد. فالدولة ممثّلة في مصرف لبنان عبر مفوّض الحكومة وعبر المديرين العامين للمالية والاقتصاد، العضوين في المجلس المركزي. وتبقى الدولة مسؤولة أيضاً من خلال وزير المال ومجلس الوزراء بالنسبة إلى عدد من الأمور، كإصدار سندات الخزينة واليوروبوندز، على سبيل المثال، لا الحصر.
ولا يمكن تصوّر اقتصار عالم النقد والمال على مصرف لبنان منفرداً، بل يعود إلى مجلس النواب أن يتدخّل مشرّعاً حيث يقتضي الأمر، كما يعود إلى مجلس الوزراء «وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها» (المادة 65 من الدستور).
■ ■ ■


أبرز أدوات المراقبة والمحاسبة
- بالنسبة إلى المودعين، تتصدّر أدوات المحاسبة، المراجعة القضائية المتاحة للمتضرّر، في حال إخلال المصرف بأيّ من موجباته القانونية أو العقدية، وقد شهدنا في معرض «الكابيتال كونترول» غير القانوني، صدور قرارات قضائيّة عدّة، استجابةً لمطالب محقّة لمودعين لجأوا إلى القضاء المستعجل. يُذكر أن نظاماً خاصاً يحكم الحالات القصوى المتمثّلة بالتعثّر وبالتوقف عن الدفع، لا مجال لتفصيلها هنا، وتتناول حقوق المودعين. أما المراقبة، فمتاحة من خلال ما فرضه القانون والأنظمة وقرارات وتعاميم مصرف لبنان لجهة شفافية العمليات وموجب الإعلام عن المخاطر، تحديداً.
- بالنسبة إلى لمصارف، ثمة مراقبة داخلية مثلّثة الأشكال وأخرى خارجية مزدوجة. المراقبة الداخلية، فهي أولاً من خلال مجلس الإدارة، وثانياً من خلال أجهزة الامتثال (compliance) والتدقيق (audit)، وثالثاً من خلال جمعيات المساهمين العمومية. أما المراقبة الخارجية، فهي، من جهة، من خلال مكاتب التدقيق المحاسبي المستقلّة، كمفوضي مراقبة يتوّجب عليهم إرسال نسخ عن تقاريرهم إلى حاكم المصرف المركزي ورئيس لجنة الرقابة على المصارف (المادة 188 من قانون النقد والتسليف) وتترتب على هؤلاء مسؤولية مهنية حَدَّد إطارها قانون التجارة وطرأت عليها تعديلات أساسية عام 2019 أدخلت عقوبات جزائية. وتجري المراقبة الخارجية، من جهة أخرى، من خلال مصرف لبنان، ولا سيما عبر لجنة الرقابة على المصارف، وهي دائرة مستقلّة ومنفصلة تماماً عن دوائر المصرف المركزي، ومرتبطة مباشرة بالحاكم (المادة 148).
إن إعفاء الحكومة، ووزارة المال، من المسؤولية عن سياسات وأداء المصرف المركزي على مدى عقود يشكّل تجاهلاً لأبسط قواعد الرقابة المنصوص عنها قانوناً

وبحسب المادة 149، يمارس المصرف المركزي رقابته على الوجه الاتي:
* بالتدقيق في البيانات والمستندات والمعلومات والإيضاحات والإثباتات التي يجب على المصارف أن تقدّمها أو التي تُطلب منها على مسؤولية المديرين التنفيذيين الشخصية.
* باتخاذ القرار بإجراء تدقيق أوسع بواسطة مراقبيه، ولا سيما لجنة الرقابة على المصارف.
- أما بالنسبة إلى مراقبة المصرف المركزي، فقد أفرد قانون النقد والتسليف المواد 41 إلى 46 منه لتنظيم هذه المراقبة، حيث يبدو بوضوح أن استقلالية مصرف لبنان، كهيئة ناظمة، لا تحول دون ممارسة الحكومة حدّاً أدنى من الرقابة عليه من خلال مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي في وزارة المال والتي يديرها موظف برتبة مدير عام. يسهر مفوض الحكومة على حسن تطبيق قانون النقد والتسليف ويراقب محاسبة المصرف، وله أن يطلب من الحاكم تعليق أيّ قرار يراه مخالفاً للقانون والأنظمة ويراجع وزير المال بهذا الصدد. وبذلك، يبدو جلياً أنه، ومع مراعاة خصوصية المصرف المركزي في التشريع واستقلاليته كهيئة ناظمة، إلّا أنه يبقى ضمن دائرة الرقابة الحكومية وحتى البرلمانية، في حدود معينة. ولذلك، فإنّ إعفاء الحكومة، أي حكومة، ووزارة المال، أي وزارة مال، من المسؤولية في ما خصّ سياسات وأداء المصرف المركزي، على مدى عقود، إنما يشكّل تجاهلاً لأبسط قواعد الرقابة التي نصّ عليها القانون ويؤدي إلى إعفاء الدولة وسلطاتها الدستورية من موجب المتابعة والمراقبة والتدخّل حيثما تقتضي حماية حقوق المودعين وسلامة القطاع.
- أما بالنسبة إلى رقابة الحكومة على المصرف المركزي، فتبقى تحت مجهر مجلس النواب الذي يعود له أن يناقش أعمال الحكومة عموماً، وأن يطرح الأسئلة النيابية والاستجوابات وصولاً إلى لجان التحقيق، مع إمكان طرح الثقة. وبذلك، يصبح مجلس النواب في صلب عملية الرقابة ويعود له، لا سيما عبر لجنة المال والموازنة، أن يستمع لمن يراه مناسباً وأن يطرح الأسئلة ويبني على الشيء مقتضاه. وقد حصل ذلك لماماً، وربما بعد خراب البصرة.

هي أزمة تطبيق القانون حيث هو قائمٌ وضامن للحقوق، بدلاً من التلهّي بعناوين شعبوية تعلّق كلّ شيء على حبل انتظار تشريعات جديدة


هذا كلّه يعني أن ثمة مسؤولية مشتركة في ما آلت إليه أمور الودائع وخسائر القطاع المصرفي وخسائر مصرف لبنان والمالية العامة وتفاقم الدين العام وتعثّر السداد. وإن كل ما تقدّم هو نتيجة تراكمات على مدى سنوات أدّت اليوم إلى الانفجار الكبير والانهيار الخطير. هي، في المحصّلة، أزمة تطبيق القانون حيث هو قائمٌ وضامن للحقوق، بدلاً من التلهّي بعناوين شعبوية تعلّق كلّ شيء على حبل انتظار تشريعات جديدة. هي أزمة الشجرة التي يُراد بها إخفاء الغابة. أما الأخطر، فهو إخفاء الحقيقة: حقيقة المتحوّل من مالٍ إلى بُخار. رحم الله لافوازييه الذي أُعدم بالمقصلة، لا لعلّةٍ في علمه، بل لأن أهل الثورة الفرنسية، يومذاك، أخذوا عليه أنه كان «جابياً للضرائب».

* محام وأستاذ جامعي