لا تزال السلطة الحاكمة تتحدث عن استدانة مبالغ جديدة من مصادر خارجية حتى مع انهيار الاقتصاد اللبناني ومع ملامسة الدين السيادي لما يقارب الـ 100 مليار دولار رغم ظهور الكثير من المؤشرات ذات الصلة:• صافي الأصول بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان أصبح سلبياً وفقاً لتقارير وكالة Fitch للتصنيف الائتماني
• الصناديق الانتهازية (Vulture Funds) بدأت تنقضّ على سندات اليوروبوندز
• الفساد متفشٍّ
• استرداد الأموال العامة المنهوبة لا يزال بعيد المنال
• الآلاف من الموظفين الحكوميين الوهميين والمعيّنين خلافاً لقانون سلسلة الرتب والرواتب رقم 46 لعام 2017 لا يزالون يتقاضون رواتبهم من دون وجه حق.
• خسارة الليرة اللبنانية نحو ثلثي قيمتها.
• الودائع المصرفية مجمّدة لدى المصارف.
• هناك قيود صارمة للغاية على رؤوس الأموال تخنق الاستيراد.
• خسارة الآلاف من الوظائف.
• النواب الذين صوّتوا من دون حرج على ضريبة تلو أخرى لم يبذلوا أي جهد شخصي من خلال خفض رواتبهم على سبيل المثال.
• صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم يكفّا عن التذكير منذ سنوات بأنه يجب على لبنان مساعدة نفسه حتى يتسنّى للآخرين مساعدته.

اقتراض غير مقبول
إن الاقتراض اليوم، قبل تنفيذ إصلاحات عميقة وحقيقية تحت إشراف المنظمات الدولية، أمر غير مقبول على الإطلاق. لا يمكن أن تُبرِّر الحاجة إلى استيراد المواد الأولية، ولا الحاجة إلى تأمين قرض مرحلي في انتظار إعادة جدولة الديون السيادية، اقتراض دولار واحد. لقد استنفد المقترض، أي السلطة الحاكمة، مصداقيته الداخلية والخارجية، وسيكون أي مُقرض جديد مسؤولاً عن إساءة توفير القروض؛ وبالتالي سيتمّ اعتبار دينه بغيضاً.
سوف نظهر أنه إذا كانت نظرية الديون البغيضة لا يمكن أن تشكّل، لأسباب قانونية ومالية، أساساً لرفض سداد الديون التي تمّ التعاقد عليها سابقاً، فإنه يمكنها أن تبرّر رفض سلطة جديدة تصل إلى الحكم، سداد أي ديون جديدة سيتم التعاقد عليها ابتداءً من اليوم.
تعتبر الأمم المتحدة أن الإقراض على مستوى مرتفعٍ من المديونية ومن دون إعادة جدولة الديون ينتهك مبدأ الإقراض المسؤول، والذي بموجبه لا يجوز للمقرضين منح قروض تتجاوز قدرة السداد المعقولة. في لبنان، إن هذه القدرة قد تمّ تجاوزها منذ فترة طويلة، وسيكون أي قرض جديد غير مسؤول في نظر الأمم المتحدة وبغيضاً في نظر الشعب اللبناني. إن لبنان بلد فقير مثقل بالديون، ولن يكون من السهل على مُقرضيه، على الأقل من الآن فصاعداً، التذرّع بحسن النيّة أو الجهل.

نظرية الدين البغيض
عندما وضع رجل القانون الروسي المقيم في ذلك الحين في فرنسا، ألكسندر ناهوم ساك (A.N. Sack)، مفهوم الدين البغيض في عام 1927 في كتابه التأسيسي «آثار تحولات الدول على ديونها العامة والتزاماتها المالية الأخرى»، قابل مبدأين رئيسيين للقانون الدولي العام: من ناحية، الموقف الكلاسيكي الذي بموجبه يجب سداد الديون السيادية عملاً بمبدأ «العقد شريعة المتعاقدين Pacta sunt servanda» الذي يفرض على الدولة تنفيذ التزاماتها؛ ومن ناحية أخرى، ضرورة احترام «القواعد الآمرة Jus cogens»، أي مجموعة المعايير الملزمة التي تسمح باستبعاد قواعد معيّنة. يمكن استبعاد مبدأ «العقد شريعة المتعاقدين» في وجود قاعدة إلزامية من ضمن القواعد الآمرة، وهذا الحلّ مكرّس حالياً في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969.
يمكن تصنيف الديون السيادية ديوناً بغيضة حتى لو تعاقدت عليها دولة يمكن اعتبارها ديمقراطية


اعتبر ساك أن الدين السيادي، حتى وإن تمّ التعاقد عليه بشكل نظامي، يمكن اعتباره بغيضاً من قِبل النظام الجديد إذا استوفى شرطين: أن يكون النظام السابق قد استخدم هذه الأموال ضدّ مصلحة الشعب، وأن الدائنين كانوا على علم بهذا الاستخدام غير المشروع. من المعروف الآن أن ساك لم يضف شرطاً ثالثاً، وهو أن السلطة كانت مستبدّةً، أو أن الدين كان كذلك (قد يكون النظام بغيضاً ولكنه استخدم الدين بحكمة؛ وفي المقابل، قد لا يكون النظام غير شرعي ولكنه استخدم الدين بطريقة بغيضة، وهو ما يمكن أن يكون عليه الحال في لبنان). إذا تمّ استيفاء هذين الشرطين، يمكن للنظام الجديد، بحسب ساك، تصنيف هذا الدين بأنه بغيض (غير شرعي أو إجرامي) لاحقاً (بعد إنشائه post ante) وبالتالي التنصّل منه.
قبل بضع سنوات من ساك، في عام 1923، كان الرئيس تافت (Taft) قد أعلن، بصفته محكّماً في قضية Tinoco، أن الأموال المقترضة كان ينبغي استخدامها لأغراض حكومية مشروعة وليس لتحقيق مكاسب شخصية للحكام.
تتمثّل نقطة الضعف في هذه النظرية في عدم وجود سلطة عالمية محايدة يمكنها أن تصنّف الدين السيادي لاحقاً (post ante) على أنه بغيض، وبالتالي في أنه يعود إلى الدولة المدينة نفسها القيام بذلك لتبرير توقفها عن الدفع. مثل خلافة الدول، لا يمكن لتغيير السلطة أن يبرر التنصل من الديون بشكل أحادي؛ إن ديون الدولة «لاصقة» وتنتقل من دون توقف. ولهذا السبب، لم تخترق نظرية ساك القانون الدولي كقاعدة قانونية: لم تكرّسها أي اتفاقية دولية؛ ولم تصبح عرفاً أو «رأياً قانونياً»، ولا مبدأ قانونياً عاماً معترفاً به؛ ولم يتم الارتكاز إليها في أي قرار قضائي أو تحكيمي بشكل رئيسي؛ ولم تدلِ أي دولة متخلّفة عن الدفع بهذه النظرية صراحةً، لأسباب تتعلق بالسمعة، خوفاً من أن تصبح منبوذة وأن تُستبعد من الأسواق العالمية.
في عام 2003، بعد سقوط نظام صدام حسين، درست الولايات المتحدة الأميركية، ولكن من دون أن تذهب أبعد من ذلك، إمكانية استخدام هذه النظرية لتحرير العراق من عبء الديون البالغة 125 مليار دولار التي تعاقد عليها نظام لا يمكن لدائنيه تجاهل طبيعته البغيضة، والتي لم تُستخدم لمصلحة السكان. وفي عام 2008، لجأ رئيس إكوادور إلى هذه النظرية لحثّ الدائنين على التفاوض بشأن إعادة جدولة الديون. في عام 2006، وفي مبادرة فريدة ونبيلة جداً، أعلنت النرويج نفسها دائنة بغيضة لإسقاط الديون المستحقة لها في ذمة خمس دول (بما في ذلك مصر).

أي دين لبناني جديد بغيض قبل نشوئه
يُظهر تحليل الديون السيادية اللبنانية أنه يمكن تصنيفها كديون بغيضة. في الواقع، حتى لو تمّ التعاقد عليها من قبل دولة يمكن نظرياً اعتبارها ديمقراطية، فإن هذه الديون لم يستفد منها المواطنون سوى بشكل هامشي (تمّ ابتلاع هذه الديون، بنسبة ثلاثة أثلاث متساوية تقريباً، من قبل القطاع العام المتضخّم والزبائني وغير المجدي؛ ومن قبل قطاع الكهرباء العاجز؛ ومن أجل خدمة الدين)، وهذا أمر لا يمكن للدائنين، الذين استفادوا من الثلث الثالث، تجاهله، ومن بينهم بصورة خاصة المصارف اللبنانية؛ أما بالنسبة إلى المقرضين الأجانب، فلا يمكنهم الادّعاء بعدم معرفتهم بالتصنيف الكارثي للبنان الذي يتصدر القوائم العالمية للفساد ولانعدام الشفافية ولعدم الكفاءة وما إلى ذلك. ومن واجب المقرض الاستفسار والاستعلام، تحت طائلة تصنيف سلوكه بالمهمل. والإهمال هنا يتمثّل في منح قرض من دون احتمال سداد جدّي من قبل المقترض. إن أبسط تقرير ائتماني يكفي لكي يعرف المقرض الأكثر تهاوناً إلى من يقرض وكيف سيتمّ استخدام أمواله. إضافة إلى ذلك، ليس هناك ما يمنع أي سلطة جديدة في لبنان من مطالبة محاكم نيويورك (وهي المحاكم المختصة، بموجب أحكام عقود سندات اليوروبوندز) بتطبيق الأنظمة الأميركية (قانون نيويورك هو القانون المطبق) القائمة على سبيل المثال على «مبدأ الأيدي غير النظيفة» (unclean hands doctrine) الذي يمنع، على غرار قاعدة «Nemo Auditur»، الدائن الذي شارك في الفساد أو سمح بهدر المال العام، من أن يستفيد من ظرف أوجده بنفسه.
إذا كان من غير الممكن بالتالي وصف الديون السيادية بأنها بغيضة بعد إنشائها (post ante) سوى أمام القضاء، فمن الممكن القيام بذلك مسبقاً (ex ante)، أي قبل إنشاء ديون جديدة. يجب أن يجاهر اللبنانيون، الآن وقبل أن تتمّ استدانة مبالغ جديدة من قبل هذه السلطة الحاكمة، بأن أي ديون جديدة ستُمنح من الآن فصاعداً إلى السلطة الحالية ستعدّ من قبلهم ديوناً بغيضة. لا يمكن لأي شخص سيقرض الأموال للبنان، قبل الإصلاحات الهيكلية، أن يتذرّع بالجهل، وسيكون بالتالي شريكاً في تبديد الأموال التي سيقرضها؛ وقد لا يسترد ديونه.

* محامٍ بالاستئناف، بروفسور بالقانون، نائب رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين (ALDIC)