عندما اختيرَ مستشفى بيروت الحكومي الجامعي ليكون مركزاً لاستقبال مرضى «كورونا» لم يتم الأمر بعد منافسة مع عدد من المستشفيات الخاصة، بل كان خياراً وحيداً لمستشفى اكتسب سمعة «مستشفى الفقراء». هذا المستشفى صُمّم ليشمل 500 سرير، وأنشئ فيه مختبر للفحوص الطبية والفيروسات اعتُمد من منظمة الصحة العالمية بعد كشف دقيق عليه «ما سمح له بمواجهة الكثير من الأزمات وصولاً إلى كورونا اليوم. ففي هذا المختبر أُجري 17 ألف فحص H1N1 وجُمعت أشلاء 90 شخصاً كانوا على متن الطيارة الأثيوبية» يقول رئيس مجلس إدارة المستشفى السابق وسيم الوزان. وهذا المستشفى يستقبل اليوم مرضى «كورونا» رغم إحجام عدد كبير من المستشفيات الخاصة وتردّدها في الاستعداد لاستقبالهم.تردّد المستشفيات الخاصة مثير للاستغراب كون الإنفاق الحكومي على الاستشفاء كان يصبّ في أرباحها مباشرة مقابل إنفاق متواضع على القطاع الحكومي. فليس من المعقول، أن «تنفق الدولة على القطاع الخاص أكثر من 70% من فاتورة الاستشفاء مقابل الفتات على القطاع الحكومي» بحسب رئيس دائرة السياسة والإدارة الصحية ومدير مركز ترشيد السياسات في الجامعة الأميركية في بيروت فادي الجردلي. السبب، كما يشير الجردلي يُعزى إلى «منظومة فساد أوصلت القطاع الحكومي إلى ما هو عليه اليوم». من أبرز مظاهر هذا الفساد، شبه انعدام للأرقام الدقيقة عن عدد أسرّة الإنعاش وأجهزة التنفس وغرف العزل. الأرقام التي اعتمدتها وزارة الصحّة أخيراً، سبقتها أرقام متباينة كثيراً. «ثمة من قال إن عدد أسرّة العناية الفائقة كان 800، وهناك من قال 600، والمستشفيات الخاصة قالت 500 غالبيتها مشغولة. أيّ من هذه الأرقام نصدّق؟» يسأل الجردلي.

داريو كاستيليخوس ــ المكسيك

انطلاقاً من هنا، فإن «مستشفى الفقراء» يختصر الكثير من قصّة جهوزيته للتعامل مع «كورونا» وتردّد القطاع الخاص. المسألة تتعلق بأولوية الربحية. أصلاً هذه السمعة ناتجة من رفض المستشفيات الخاصة الكثير من المرضى وتفضيلها المرضى «الدسمين». فعلى سبيل المثال، إن مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت ومستشفى كليمنصو ومستشفيات أخرى في بيروت تنافست على استقبال المرضى العراقيين الذين يدفعون أو تدفع عنهم حكوماتهم «كاش» ورفضت الكثير من مرضى وزارة الصحة والضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة، وحتى أولئك المضمونين على حساب الصناديق العسكرية. غالبية هؤلاء كانوا يذهبون إلى مستشفى بيروت الحكومي حيث يجدون سريراً فارغاً وطبابة جيدة ورخيصة أيضاً.
في الواقع، تمكنت «العصابة» نفسها من فرض هذه الأولوية على مدى السنوات الماضية. روّجت هذه العصابة المؤلفة من سياسيين وأصحاب الرساميل، أن القطاع العام فاشل في تقديم الخدمات العامة، وعملوا على تعطيل المستشفيات الحكومية والتنافس للسيطرة على مجالس إداراتها وتكريس الفساد والزبائنية فيها ووقف استثمار التطوير فيها، وصولاً إلى الامتناع عن زيادة حصّتها من النفقات الاستشفائية في وزارة الصحة وباقي الصناديق الضامنة.
مستشفى بيروت الحكومي الجامعي هو نموذج لمعاناة 30 مستشفى حكومياً في لبنان يستقبل جميعها نحو 78 ألف مريض سنوياً، بينما حصّتها من فاتورة الاستشفاء في وزارة الصحّة لا تتجاوز 130 مليار ليرة من أصل فاتورة إجمالية بقيمة 475 مليار ليرة. الكلفة الوسطية للمعاملة الواحدة في المستشفى الحكومي تبلغ 1.7 مليون ليرة مقابل 2.4 مليون ليرة في المستشفى الخاص. كذلك، تعاني المستشفيات الحكومية من علاقتها مع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومع باقي الصناديق الضامنة (الصناديق العسكرية، صناديق التعاضد، التأمين الخاص...). صندوق الضمان يدفع للمستشفيات سلفاً عن فواتير الاستشفاء بقيمة سنوية تبلغ 495 مليار ليرة لا تنال منها المستشفيات الحكومية سوى 5.8 مليارات. المستشفيات الخاصة تقبض من الضمان سلفاً عن مرضى لم يأتوا بعد. أما مرضى الصناديق العسكرية من ذوي الرتب العالية فهم ليسوا زبائن المستشفيات الحكومية، وكذلك من هم على عاتق صناديق التعاضد والتأمين الخاص.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في ظل كل هذا الإنفاق على المستشفيات الخاصة، لماذا هذه الأخيرة تتردّد في تطوير الغرف سريعاً لتكون جاهزة لاستقبال مرضى الكورونا. هنا تترجم مسألة الربحية بوضوح. فالمستشفى الحكومي لا يبغى الربح خلافاً للمستشفيات الخاصة وإن كانت مؤسسة من قبل جمعيات لا تبغى الربح. بحسب رئيس مجلس إدارة مجموعة غيتس الاستشارية لتطوير الإدارة الصحية عادل علّيق، فإن المردود على الاستثمارات لدى المستشفيات الخاصة يتراوح بين 15% و20%. يرفض عليق الدخول في تفاصيل الأرقام، إلا أن معطيات موثوقة تشير إلى أن نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة أجرت أخيراً دراسة تشير إلى أن قيمة الاستثمارات في هذه المستشفيات تزيد على 5 مليارات دولار. لذا، فإن المردود يصل إلى مليار دولار سنوياً. قد يكون هذا المؤشر من الأعلى في لبنان، وهو أعلى من نسب الفوائد على الليرة اللبنانية في عزّ الأزمة، أي النصف الأول من عام 2019 عندما ارتفعت أسعار الفوائد على هندسات مصرف لبنان إلى 20%.
كيف يكون هذا المردود مرتفعاً؟ يقول خبير متخصص في إدارة المستشفيات إن المعادلة الأساسية تكمن في كلفة السرير الواحد ومردوده. السرير، لا يعني حجز غرفة وكهرباء ومياه وخدمة لوجستية، بل هناك كلفة تمريض وتكييف وصيانة وأكلاف أخرى تعمل المستشفيات على تغطيتها وجمع الأرباح من خلال تشغيل أقسام أخرى في المستشفى. ولكَي يكون هناك ما يسمّى جدوى اقتصاديّة من المريض، يجب أن يؤدّي وجوده في السرير إلى تشغيل قسم الأشعة وقسم المختبر وزيارات الطبيب، وصيدلية المستشفى، والجراحة والمستلزمات الطبية... كلما ارتفعت نسبة تشغيل هذه الأقسام كلما حقق السرير ربحاً إضافياً.
2000 مليار ليرة حصّة المستشفيات الخاصة من فاتورة الاستشفاء وغالبيتها ترفض استقبال مرضى كورونا لأنهم غير مربحين


تتعزّز هذه المعادلة بدراسة منشورة على موقع «Researchgate» نفذتها راشل عبدو، حليم عبّود، باسكال سلامة، وناجو جمعة، بعنوان «الكلفة الطبية المباشرة للاستشفاء من السكتة الدماغية في لبنان». الخلاصة التي يمكن استخراجها من الدراسة أن مصادر كلفة المريض الواحد موزّعة كالآتي: 26% كلفة الغرفة، 22.3% الفحوصات العامة، 15.7% أجور المعالجين، 14.4% الفحوصات المخبريّة، 14.6% الأدوية، 6.2% مختلف.
لعلّ هذا هو السبب الأساسي لتردّد المستشفيات الخاصة في استقبال مرضى «كورونا». غالبية هؤلاء المرضى يحجزون غرفة بكاملها من دون تشغيل الأقسام التي تدرّ أرباحاً أكثر على المستشفى. وجودهم في المستشفى يشغّل على سبيل المثال، الكهرباء، واليد العاملة (التمريض والتنظيف)، ويحصلون على باراسيتامول فقط وصورة صدر واحدة. فضلاً عن أنه لا يمكن الغشّ في مسألة الإصابة بفيروس «كورونا» حتى إذا تفاقمت العوارض لدى عدد قليل من المرضى، فإنهم سيعالجون وفق بروتوكولات ومعايير محدّدة يُصعب الغشّ بشأنها كما تفعل غالبية المستشفيات في الفواتير.
هذا السلوك يثير الاشمئزاز مقارنة مع الحسابات الصحية الوطنية: حصّة المستشفيات الخاصة من الفاتورة الاستشفائية تصل إلى 2000 مليار ليرة، والقسم الأكبر منها مدفوع من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بنسبة 23% تليه وزارة الصحة العامة بنسبة 21% ثم التأمين الخاص وصناديق التعاضد والمؤسسات الخاصة بنسبة 19%، ومنظمات المجتمع المدني بنسبة 3.1%... وهناك مصدر للإيرادات لا يظهر ضمن مبلغ الـ2000 مليار ليرة يتعلق بالأسر التي تدفع من جيوبها 33% أو ما يوازي 2100 مليار ليرة، لتسديد فروقات الاستشفاء بين ما يغطّيه الصندوق الضامن وفاتورة المستشفى والأطباء.

المستشفيات الخاصة تطلب اليوم من المرضى مبلغ 300 ألف ليرة عن كل فحص كورونا رغم أن تسعيرة الوزارة تحدده بنحو 150 ألف ليرة


الأنكى من كل ذلك، أن المستشفيات الخاصة تطلب اليوم من المرضى مبلغ 300 ألف ليرة عن كل فحص كورونا رغم أن تسعيرة الوزارة تحدّده بنحو 150 ألف ليرة في هذه المستشفيات. الغشّ يكمن في ما يسمّى كلفة الطوارئ التي يفرضها المستشفى على كل فحص. هذا النوع من التلاعب بالفاتورة يكشف عن جشع المستشفيات الخاصة المحفّزة فقط بالأرباح. «لو قرّرت الدولة أن تخصص مبالغ لاستشفاء مرضى الكورونا في القطاع الخاص لكانت المستشفيات الخاصة استجابت. المحرّك الوحيد لها هو الربح. إنها صناعة السوق» يقول الخبير.
بعد أكثر من شهر على إثبات وجود فيروس كورونا في لبنان، لم يتقدّم أي مستشفى بمبادرة تشير إلى رغبته في استقبال المرضى. لولا أن الإصابات في مستشفى سيدة المعونات كانت من الطاقم الطبي لديه، لم يكن هذا المستشفى راغباً في استقبال مرضى «كورونا» يقول مصدر مسؤول. وفي الاجتماعات التي حصلت في وزارة الصحّة، ادعت المستشفيات الخاصة أنه لا قدرة لديها على استقبال مرضى «كورونا» لأن الأمر يقع ضمن مهمة الدولة أولاً، ولأنه لا قدرة لديها على تخصيص غرف عزل وتجهيزات أخرى. أصحاب هذه المستشفيات أُبلغوا من مسؤولي وزارة الصحة أن الفيروس قادم لا محال وعليكم الاستعداد سواء أردتم أم لم تريدوا. الفيروس قادم إليكم مباشرة. هذا هو المحرّك الذي دفعهم إلى تخصيص أكثر من 1000 غرفة ليس معروفاً في أي مستشفيات ستكون متوافرة. المستشفيات هي وجه آخر لـ«العصابة» نفسها التي تحكّمت ببنية الاقتصاد اللبناني من مصارف واحتكارات وسواهم من مراكز نفوذ سياسية أيضاً لديها من يهلّل ويطبّل باستمرار للخصخصة. هل تنقذهم هذه الخصخصة من براثن المستشفيات؟



الإصابات البشرية vs الخسائر المادية
هناك توقعات تشير إلى أن لبنان يتحضّر لاستقبال ما بين 5000 حالة و8000 حالة مريض «كورونا» وأن الهدف من إغلاق النشاطات الاقتصادية والاجتماعية هو تأخير انتشار هذه الحالات لتبقى قدرات النظام الصحي قادرة على احتواء الأعداد وتزايدها. التحضيرات التي أعلنتها الوزارة تشير إلى أنه بات لديها 165 جهاز تنفس في المستشفيات الحكومية و1020 جهازاً في المستشفيات الخاصة، ونحو 1093 سرير طوارئ منه 215 في الحكومي و2308 أسرّة عناية فائقة منها 336 في الحكومي. هذا الأمر سيؤدي إلى خسائر اقتصادية ضخمة تترجم بتقلص الناتج المحلي الإجمالي 10% فوق ما كان متوقعاً لعام 2020. بمعنى آخر، قد يبلغ التقلص في الناتج 18%، أي سيتراجع من 50 مليار دولار إلى 41 مليار دولار بما يعنيه ذلك من خسارة للوظائف وبطالة وإغلاق مؤسسات وتراجع في الإنتاجية، لكن ستكون له إيجابية متعلقة بخفض الاستهلاك المستورد وتخفيف الطلب على الدولار.