تقدّمت أولوية مكافحة فايروس كورونا على كل الأولويات التي كانت تعدّ داهمة. فجأة تراجع الاهتمام بمسائل مصيرية مثل إعادة هيكلة الدين العام، استيلاء المصارف على ودائع الناس، تدهور سعر صرف الليرة، الركود، تضخّم الأسعار... مكافحة «كورونا» تقدّمت لتصبح الشغل الشاغل للناس، وتخلق زيادة «جنونية» في الطلب الاستهلاكي على مواد التعقيم والتطهير. هذه السوق كانت قيمة مبيعاتها 50 مليون دولار، لكن لا أحد يعلم أيّ سقف ستبلغه ولأي فترة زمنية ستمتدّ هذه الزيادة. هي طفرة غير ثابتة ضمن المعادلة الآتية: ذروة الطلب تتفاعل مع ذروة الانتشار. كلما كان الانتشار بطئياً يميل الطلب نحو العقلانية، وكلما ارتفعت وتيرة الهلع، يميل الطلب نحو «الجنون». اليوم يشهد لبنان فترة «الجنون» مع ارتفاع الطلب على مطهرات اليدين 40 مرّة. هذا الطلب لا يلتفت إلى مواصفات المنتجات المتنافسة في السوق ومدى فاعليتها. السلعة الأجنبية موثوقة أكثر. ثقة نابعة من نمط استهلاكي مترف اعتاده اللبنانيون. هل يعلمون أن غالبية منتجات التعقيم والتطهير مصنوعة محلياً؟ ربما ستكون هذه الثقة أقسى امتحان عليهم مواجهته في ظل تقلّص القدرة على الاستيراد بدولارات رخيصة الثمن: هل يمكن الوثوق بالمنتجات المحليّة؟
طلب جنوني
هناك أربعة مستويات من مواد التطهير والتعقيم ولكل منها خصائص خاصة رغم أنه لا يمكن التمييز بين مفاعيلها بسهولة:
ــ منتجات التطهير التي تستعمل على البشرة، وهي تأتي على شكل هلامي أو يمكن رشّها. من أبرز أشكالها المطهرات المبيعة في السوق المحلية تحت مسمّى «Sanitizers» أو تلك المبيعة تحت اسم «سبيرتو» مهما كان اسمها التجاري.
ــ منتجات التطهير التي تستعمل على الأسطح الصلبة في المستشفيات والعيادات الطبية وما شابه تحت مسمى «Disinfections».
ــ منتجات التعقيم التي تستعمل لتعقيم غرف العمليات وما يشابه تحت مسمى «Sterilizers».
ــ منتجات تعمل للتطهير والتعقيم والتنظيف في المنازل هي كيميائية التركيب ويتضمن بعضها نسبة مرتفعة من الكلور.

50 مليون دولار

حجم سوق مواد التعقيم والتطهير قبل كورونا، لكنه ازداد كثيراً بعد انتشار الوباء في لبنان وقد زاد الطلب الاستهلاكي على المطهرات المستعملة للبشرة 40 مرّة


كل هذه المنتجات ازداد الطلب عليها بوتيرة متسارعة في الأسابيع الماضية. «كان حجم سوق السانيتيزرز يبلغ 500 ألف دولار سنوياً، لكنه تضاعف 40 مرّة» يقول المدير العام لشركة «سانتيا ــ برسونا» فادي فيّاض. يشير إلى أن حجم سوق مواد التعقيم والتطهير كان يبلغ 50 مليون دولار، لكن الطلب تضاعف. بعض هذه الزيادة مؤقّت، وبعضها الآخر قد يصبح دائماً بسبب التوعية الناشئة حول استعمال هذه المنتجات للوقاية من الفايروسات والأمراض. ما يعنيه فياض هو أن نمط استهلاك مواد التعقيم والتطهير سيزداد بعد اعتياد الناس على استعمال هذه المنتجات كأدوات وقاية من الأمراض، سواء فايروس كورونا أو غيره. فالأزمة الحالية الناشئة عن انتشار «كورونا» وخروجه عن السيطرة في غالبية البلدان التي انتقل إليها، ستؤدي إلى تغيير في سلوك المجتمعات وأنماط استهلاكها. ستبقى المخاوف من انتشار الفايروسات والباكتيريا قائمة وتحفّز الناس على استهلاك منتجات التعقيم والتطهير. هذا المسار تكرّر سابقاً مع تفشي إنفلونزا الخنازير (H1N1) وأنفلونزا الطيور، وقبلها مع انتشار النسخة الأولى من كورونا «سارس»...
ولعلّ جديّة انتشار فايروس «كورونا» والهلع الذي تسبب به في العالم، كان سبباً لإبعاد الخلفيات التجارية عن الواجهة الفعلية للطلب والاستهلاك. فمن اللافت ألا يجادل أحد اليوم في الارتفاع المفاجئ والكبير في أسعار منتجات مواد التطهير والتعقيم. مستوى جديّة الوباء والخوف منه وسط غياب التوعية، تعكس محدودية النقاشات بشأن فاعلية المنتجات المتوافرة في السوق وقدرتها على قتل هذا الفايروس؛ هل الكحول أو ما يسمى اصطلاحاً على العلامة التجارية «سبيرتو»، كافٍ لقتل هذا الفايروس وغيره حين يوجد على اليدين والأسطح؟ لتكون معقمة ومطهّرة بأي نسبة تركّز يجب أن تبلغ نسبة المواد الفاعلة في هذه المنتجات؟ هل المادة الهلامية فعّالة؟ هل المواد المائية التي تستعمل للرشّ هي الأكثر فعالية؟ هل المواد المستوردة أم المواد المنتجة محلياً؟

أنجل بوليغان ــ المكسيك


فرصة الصناعة المحلية
وزير الصناعة عماد حبّ الله، سأل المصنّعين والتجار عن مواصفات المنتجات المحليّة أو تلك التي يسمح بدخولها إلى لبنان. كان مهتماً بمعرفة القدرات الإنتاجية وكفايتها للسوق المحلية في ضوء ارتفاع الطلب العالمي على منتجات التعقيم والتطهير، وبمدى مطابقة هذه المنتجات للمواصفات، وأي مواصفات يستعمل لبنان. (سأل أيضاً عما إذا كانت هناك كميات كافية من من الأدوية المستعملة لتخفيف العوارض الثانوية الناشئة عن المرض). سرعان ما تبيّن له أن بعض منتجات التعقيم والتطهير المعروضة للبيع على الرفوف في المحلات والسوبرماركت، غير مطابقة للمواصفات التي يعتمدها لبنان (لبنان يعتمد المواصفات الأوروبية). ويأتي هذا الأمر رغم أنه في أيلول 2019 أقرّ مجلس الوزراء بأن تكون مواصفات مواد التطهير والتعقيم والمواد الكيميائية إلزامية للمنتجات المستوردة والمنتجة محلياً وقد صدر بشأنها المرسوم 5705 الذي حدّد 11 مواصفة قياسية لمنتجات كيمائية تتعلق بالتعقيم والتطهير. لكن لا أحد يعلم كيف أنبتت الأسواق منتجات جديدة لم تكن موجودة قبل بضعة أيام. بعضها مصنوع في مصانع معروفة وزهيدة الثمن، وبعضها الآخر غير معروف المصدر.
هنا تظهر بصمة النموذج الاقتصادي المشتّت والهزيل: صلاحيات مراقبة الأسعار والمواصفات تعود لوزارة الاقتصاد! هل هذا هو الوقت المناسب لمناقشة مسألة الصلاحيات؟ لماذا لا تقوم الإدارات بالتنسيق؟ ولماذا لا يقوم كل طرف بدوره؟ ولماذا هناك أصلاً مصانع غير نظامية؟ الإجابات كلّها تقود نحو بنية النموذج الاقتصادي في لبنان. باختصار، هذا النموذج القاتل لكل عمليات الإنتاج، والمغذّي لكل نشاطات الريع، دفع الصناعة إلى التدهور يوماً بعد يوم. المصانع الكبيرة نجت منه عبر استعارة أدوات ريعية ضمن نشاطاتها الصناعية، فاستدانت الأموال من الخارج ووظّفتها في الداخل بأسعار فائدة أعلى لدعم النشاط الصناعي وتوسيع نطاق التركّز في منتجاتها، أو استدانت الأموال المدعومة من مصرف لبنان وأعادت توظيفها بفوائد أعلى لدى المصارف. كذلك، واظبت هذه المصانع على الاستفادة من النفوذ المتاح لها للمنافسة مع المنتجات المستوردة، واستغلّت هشاشة النموذج الذي أبقى نسب التركّز السوقية مرتفعة من دون فتح المنافسة لرفع أسعارها.
في المقابل، فإن إيرادات المصانع الصغيرة لم تكن كافية لتغطية كلفة استئجار أو شراء الأرض وتسديد كلفة الطاقة والعمالة، وهي لم تكن قادرة على الاستفادة من التمويل الرخيص عبر أدوات النفوذ السياسية، وليست قادرة على المنافسة مع الخارج، ما سهّل عملياً، إعدامها أو تحويلها إلى مصانع غير نظامية تعمل «تحت الدرج»، وهذا أيضاً شكّل دافعاً لها لتنافس بطرق ملائمة مع المنتجات المصنعة لدى الكبار ومع المنتجات المستوردة.

تنافس بـ«السلامة العامة»
إذاً، التنافس التجاري في السوق اليوم بات مرتبطاً باستغلال مسألة السلامة العامة، وبالتحديد المواصفات. والغريب أن المنافسة لا تقع بين مستوردين ومصانع محلية، بل بين مصانع كبرى تدّعي أنها تتعرض لمنافسة غير مشروعة من مصانع غير مرخّصة، فيما تشير هذه المصانع إلى أن المنتات المستوردة من أوروبا وأميركا هي مطابقة للمواصفات وقادرة على قتل الفايروس. ربما يعود السبب لكون قيمة سوق مستوردات المطهرات 8 ملايين دولار في 2019، وأنه ليست هناك قدرة كبيرة على استيراد المزيد لسببين: الطلب العالمي على هذه الأصناف ازداد كثيراً وبات يفوق القدرة الإنتاجية للمصانع العالمية، الاستيراد من الخارج يتطلب دولارات طازجة لا يمكن الحصول عليها إلا بسعر يزيد 35% عن سعر الدولار المحتجز في لبنان، أي إن اسعار استيرادها ستفوق بكثير أسعار المنتجات المصنّعة محلياً.


بكلام آخر، إن الأزمة المالية ــ النقدية ــ المصرفية حوّلت الأنظار عن مسألة المنافسة مع المستوردين إلى معركة محلية تستخدم فيها المواصفات كعامل حاسم لترويج منتج ما. فعلى سبيل المثال، انتشر بين الناس كلام عن أن فايروس كورونا لا يموت إلا بمنتجات تتضمن كحولاً بنسبة تفوق 70%. لكن في المقابل، برز كلام آخر عن أن الكحول أو ما يسمى اصطلاحاً «سبيرتو» لا يكفي إلا لإضعاف الطبقة الخارجية للفايروس، أي إنه لا يقتله ما يتطلب أن تكون هناك مواد فاعلة أخرى لقتله. كذلك قيل إن المواد التي يمكن استعمالها على البشرة تتضمن مواد كيمائية تقتل الفايروس وأنها تتغلغل في ثنايا البشرة وتبقى مدّة طويلة قبل أن تجف ما يجعلها أكثر قدرة على قتل الفايروس. ثمة الكثير من النظريات، لكن ليس هناك مصادر رسمية تفصل في هذا النقاش. أي منتج يجب أن نشتري؟ هل صحيح أن الكحول تقضي على الطبقة الخارجية للفايروس لكنها لا تقتلته ما يتطلب وجود مادة أخرى إلى جانبها للقضاء عليه؟ هل باقي المنتجات تقتل الفايروس حقاً؟ هل مفعولها يستمرّ لأيام كما يزعم أصحاب الشركات؟
من يحسم للبنانيين أي~ المطهرات والمعقمات المعروضة للبيع في السوق المحلية هي قادرة فعلاً على قتل فايروس كورونا؟


على أي حال، هناك الكثير من العلامات التجارية في السوق لمنتجات تطهير اليدين أو الأسطح: ديتول ولايف بوي وهايجين وبيوريل هي مستوردة، كلوروكس مستورد أيضاً، لكن لا كروا ودير جنرال وسانتيا وباكترا وسواها هي منتجات محلية. يشكو بعض الصناعيين أنهم يسلّمون الموزّعين بأسعار رخيصة لكن المبيعات للعموم تكون بأسعار أعلى بكثير. ويشكو بعضهم أن أسعار الكحول ارتفعت كثيراً في ظل وجود معملين لهما فقط. «السبيرتو» يصنع من الكحول والمياه المقطّرة بنسبة تركيز مختلفة. والناتج من هذه المادة يستعمل إلى جانب مواد هلامية لتشكيل ما يسمى «سانيتيزرز»، لكن هناك مواد تعقيم هي عبارة عن مركبات كيميائية مختلفة ومعقدة... في المحصّلة كل هذه المنتجات تحتاج إلى مواد أولية يتطلب استيرادها دولارات طازجة غير متوافرة في السوق المحلية. الكحول مستورد، وقناني البلاستيك مستوردة، وراس القنينية سواء استعمل للرش أو لإنزال كميات محدّدة هو مستورد أيضاً... القيمة المضافة المحلية في هذه الصناعة تبدو بسيطة، لكنها صناعة ضرورية اليوم وسط رهان على أن الطلب على مواد التعقيم والتطهير سيمتدّ زمنياً بسبب محاولة كبح الانتشار الذي تقوم به الحكومة عبر تعطيل وعزل القسم الأكبر من المؤسسات العامة والخاصة وإغلاق المعابر الحدودية. هذا الأمر يعني فرصة للتجار بأن يزيدوا أرباحهم بلا مراقبة وسط انغماس الجميع في الهلع من «كورونا».