لم يشهد لبنان أزمة مالية ونقدية وسياسية كالتي يشهدها اليوم، أضيف إليها أخيراً وباء كورونا. أطاحت هذه الأزمة ألوف الوظائف في العديد من القطاعات، من السياحة إلى التجارة والصناعة والخدمات. كذلك طاولت القطاع المصرفي الذي كان يزعم أصحابه أنه ركيزة لبنان الاقتصادية. ونظراً إلى السياسات الحكومية الحالية والسابقة التي تضع ضمن أولوياتها حماية المصارف والنموذج الاقتصادي القائم منذ ما قبل استقلال لبنان، والموزّع ولو بنسبة مختلفة حصصاً وريوعاً بين الطوائف والمذاهب وزعمائها، فإن غالبية اللبنانيين يخشون أن تنحدر هذه الأزمة إلى هوّة لا قعر لها، فيما يزداد انعدام ثقتهم بالطبقة السياسية ــ المالية الحاكمة، وهو ما تجلّى في 17 تشرين الأول الماضي وينذر بتصاعد التحرّكات الشعبية، وربما قد تأخذ أشكالاً أعنف أو مسبوقة مع تعاظم انعكاسات الأضرار على معظم الفئات الشعبية.في ظل كل هذه التطوّرات، ما هو موقف الاتحاد العمالي العام ودوره في هذا الوضع؟
من المفيد استعادة تعليق لرسام الكاريكاتور الراحل بيار صادق. على أحد رسومه في عام 1996 كتب الآتي: «إننا إزاء لا اتحاد ولا عمالي ولا عام»، لذا فإن السؤال عن موقف الاتحاد ودوره يقودنا مباشرة نحو سؤال آخر: لماذا هذا الانكفاء «الطوعي» لقيادة الاتحاد عن القيام بأبسط واجباتها في الدفاع عمن يفترض أنها تمثّلهم، بل كما تدّعي أنها الأكثر تمثيلاً لهم؟
ليس ممكناً تحديد دور الاتحاد العمالي العام في الوضع الحالي من دون العودة إلى نشأته السياسية في ظل «دولة الطائف». ففي الستينيات والسبعينيات وصولاً إلى الحرب الأهلية، كان لدى الاتحاد وقيادته هامشاً في التحرّك دفاعاً عن قضايا العمّال، إلا أن هذا الهامش بدأ يتهاوى بعد نهاية الحرب الأهلية، إلى أن سقط بكامله خلال فترة وجيزة. كانت هناك خطّة مدروسة ومحكمة للقضاء على هذا الهامش في إطار خطّة للسيطرة على مفاصل السلطة. ومع بدء العمل باتفاق الطائف، سُلّمت وزارة العمل لوزراء غالبيتهم من لون واحد، برعاية رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، لتنفيذ مهمة واحدة: تشتيت المنظمات النقابية وتهميشها، وخصوصاً الاتحاد العمالي العام، وصولاً إلى إلقاء القبض على قرار الاتحاد بكل معنى الكلمة. فايروس تفريخ النقابات والاتحادات النقابية سبق فايروس كورونا بسنوات. عدواه انتشرت بين النقابات العمالية ليصبح عددها 600 نقابة بدلاً من 200 نقابة. كذلك ازداد عدد الاتحادات المهنية أو الجهوية أو العامة من 21 اتحاداً إلى 52 اتحاداً. كل ذلك من دون وجود حاجة نقابية. كان الهدف زيادة عدد الأصوات في المجلس التنفيذي للاتحاد والإمساك بقراره. وبالفعل هذا ما حصل لاحقاً.
وفيما كان الرأس النقابي يتضخّم، كان الهيكل النقابي يشهد ضموراً متتالياً. من أبرز الأسباب انخفاض عدد العمال والموظفين في القطاع الخاص، وتشريع أبواب الهجرة على نطاق واسع في صفوف الشباب ومتخرّجي الجامعات والمعاهد. وبحسب الدراسات الموثّقة، فإن معدّل الانتساب (العضوية) إلى النقابات والاتحادات التي يتشكّل منها الاتحاد العام كانت ملغومة بأعداد المنتسبين إلى النقابات المنضوية ضمن اتحادي المصالح المستقلة والمصالح العامة والخاصة. العضوية في هذه النقابات هي شبه إلزامية، إذ يُفرض على المستخدمين، بالتواطؤ مع الإدارات الرسمية، تسديد الاشتراكات الشهرية من رواتبهم بشكل آلي، على أن يتم تحويلها إلى صندوق النقابة، ثم يتم تسليم الموظفين بطاقة النقابة من دون طلب انتساب. هذا الأمر يفسّر عدم مشاركة هذه النقابات في التحرّكات العامة واقتصار تحرّكاتها على مطالب فئوية خاصة.
بهذه الطريقة، أي من خلال تفريخ النقابات والاتحادات وحشر المنتسبين فيها، بسطت أحزاب السلطة سيطرتها عليها، إلا أن الأمر كان يتطلب أيضاً توزيعاً للأدوار وتقاسماً للنفوذ. ورغم كل تناقضاتها وخلافاتها، إلا أن أحزاب السلطة اتفقت، في إطار هدف واحد، على محاصصة المناصب القيادية النقابية، وتمكنت من «إزالة» الياس أبو رزق من قيادة الاتحاد، رغم أنه كان طرفاً في نزاع بين أجهزة السلطة، كما أوضح النائب إيلي فرزلي في الجزء الأول من كتابه الأخير «أجمل التاريخ كان غداً». وفي 2001 أقدمت السلطة بعد اتفاق بين الرئيسين نبيه بري ورفيق الحريري على تعيين غسان غصن رئيساً للاتحاد، مع مجموعة مكفولة بانصياعها للمكاتب العمالية لأحزاب السلطة. هكذا التقى الحزب التقدمي الاشتراكي مع حركة أمل وحزب الله والقوات اللبنانية والمردة والكتائب والمستقبل والتيار الوطني الحرّ والحزب السوري القومي الاجتماعي. خلطة تتشكّل منها قيادة للاتحاد العمالي العام على صورة الحكومات والمجالس التي حكمت البلاد منذ ما بعد الطائف. بنتيجتها أُخمد صوت الاتحاد العمالي العام، وبعد أن أُخمد صوت الاتحاد العام وبات أي تحرّك له غبّ الطلب السياسي وليس المطلبي، لم يعد هناك انتخابات ديمقراطية في الاتحاد، بل تعطّلت هيئاته وأُلغي دور مجلس المندوبين، رغم هامشيته، واختُزل دور المجلس التنفيذي بهيئة المكتب حصراً، كما اختُزلت الهيئة برئيسها الذي اختزل بدوره قرار المكتب العمالي، حتى بات تعيين رئيس الاتحاد وأعضاء القيادة يأتي بقرار لا يمكن الجدال فيه. ينطبق هذا الأمر على تعيين بشارة الأسمر ثم تكليف حسن فقيه بالرئاسة.
وبالطريقة نفسها، تمت تسمية مندوبي الاتحاد العمالي في مجلس إدارة الضمان الاجتماعي (يحق للهيئات العمالية الأكثر تمثيلاً بعشرة أعضاء في مجلس الإدارة)، وفي مجالس العمل التحكيمية ومختلف الهيئات الثلاثية التمثيل التي يشارك فيها الاتحاد وينتج عنها مصالح ماديّة (بدلات الحضور في الجلسات)، كما ينطبق ذلك على المشاركة في المؤتمرات الدولية والعربية، وهي النشاط الوحيد الذي يقوم به الاتحاد.
إن ما ينطبق على الاتحاد أو ما طُبّق عليه أو ما أُطبق عليه، تمدّد في السنوات الأخيرة إلى هيئة التنسيق النقابية، فأُزيح منها حنا غريب، واستبدل بممثل لحركة أمل، كما استُبدل رئيس نقابة المعلمين في المدارس الخاصة بممثل عن التيار الوطني الحرّ، وتقاسم باقي الأحزاب عضوية الهيئات القيادية، ليتعطّل دورها كلياً، كما هو واقع الاتحاد العمالي العام.
ما طُبّق على الإتحاد طُبّق على هيئة التنسيق فاستُبدل حنّا غريب بممثل لحركة أمل واستُبدل أيضاً رئيس نقابة معلّمي المدارس الخاصة بممثل للتيار الوطني الحر


إن ما جرى منذ ما بعد اتفاق الطائف كان عملية «تعريب» للحركة النقابية العمالية وغير العمالية، بل عملية «سَورَنَة» لها بهدف تحويلها إلى أدوات للسلطة وأبواق لها مقابل مساعدات من الدولة لبعض فئاتها وامتيازات لقياداتها. لكن في النتيجة، إن قيادة الاتحاد العمالي العام، وقيادات هيئة التنسيق النقابية، وقيادات نقابات المهن الحرّة، باستثناء بعض الطفرات المهمّة التي شهدتها أخيراً، لن تُخلي مكانها بسهولة وستقاتل بشراسة بالاتكال على رعاتها، وخصوصاً في ظل غياب دور فاعل للتيار اليساري التاريخي في الحركة النقابية. لذا، وبما أن الأزمة إلى المزيد من التعمّق والاتساع، فإن تغيير البنية النقابية المفلسة المرتبطة بالنظام السياسي الطائفي والزبائني الراهن، تقتضي التصويب على أهمية إزالة قيادة الاتحاد العمالي العام والمشاركة في الانتفاضة الشعبية، استناداً إلى اتفاقية الحرية النقابية الرقم 87، التي تعدّ من الاتفاقيات الأساسية والملزمة للدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية. ومن دون ذلك، سيبقى العمال والموظفون في لبنان وسائر فئات الأجراء في القطاعين العام والخاص، في العراء النقابي من دون أي حماية لهم ولأبنائهم. وكذلك ستبقى قيادات الاتحاد العمالي العام عبارة عن مبنى على كورنيش النهر ودائرة رسمية من دوائر الدولة مكتوب على بابها: هنا ما تبقى من الاتحاد العمالي العام.