لماذا يتخلّى مجلس النواب عن دوره وعن صلاحياته في إدارة الأزمة المالية والنقدية التي تضرب لبنان وفي معالجة تداعياتها؟ سؤال يفرضه الحديث، في الآونة الأخيرة، عن إمكان إعطاء مصرف لبنان صلاحيات استثنائية بقرار من الحكومة، وإن لم يتّضح بعد (حتى كتابة هذه الأسطر) إطارها وشكلها القانوني، إلا أنه بات واضحاً أنها لن تسلك طريق ساحة النجمة لتصدر بقانون. صلاحيات ترمي إلى تنظيم القيود المفروضة فعلياً على حركة الأموال سحباً وتحويلاً، بما بات يُعرف بالـ«كابيتال كونترول». فهل يجوز أن تُمنح تلك الصلاحيات سوى بقانون يصدر عن مجلس النوّاب؟
ماهية الصلاحيات الاستثنائية
تُعتبر الصلاحيات الاستثنائية خروجاً عن المألوف في آليات اتخاذ القرارات، على أنواعها. هكذا، مثلاً، تُعتبر المراسيم الاشتراعية التي تُصدرها الحكومة استثناءً لمبدأ فصل السلطات ولتولّي المجلس النيابي الصلاحية التشريعية. ولأنها استثناء، فهي لا تتم إلا بناءً على قانون تفويض من مجلس النواب الذي يتنازل بذلك عن تلك الصلاحية، لصالح السلطة التنفيذية، وإنما لفترة زمنية محصورة وفي مواضيع محددة. وقد تكرّر ذلك في لبنان مرّات عدة (حول الموضوع، بإسهاب، يُراجع: وسام اللحام، مجلس النواب والصلاحيات الاستثنائية، جريدة الأخبار، 22/01/2020). أمّا راهناً، فيتم الحديث عن إعطاء حاكم مصرف لبنان نوعاً من الصلاحيات الاستثنائية المماثلة.

طلب حاكم مصرف لبنان
في 09/01/2020، وجّه حاكم مصرف لبنان رياض سلامه كتاباً إلى وزير المال في حكومة تصريف الأعمال طلب فيه «اتّخاذ إجراءات استثنائية»، مقرّاً بأنّ القيود التي اتّخذتها المصارف بحقّ المودعين («كابيتال كونترول») قد «أدت في مناسبات متعدّدة إلى إجحاف بحقوق بعض العملاء»، معلّلاً أنه «يقتضي تنظيم هذه الإجراءات وتوحيدها بين المصارف بغية تطبيقها بشكل عادل ومتساوٍ على المودعين والعملاء جميعاً». اللافت في الكتاب أنه انتهى إلى طلب «السعي لاتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة من قِبل السلطة ذات الصلاحية لتكليف مصرف لبنان بالصلاحيات الاستثنائية اللازمة (...)».

السلطة ذات الصلاحية
وللتأكيد، ولو بصورة غير مباشرة، أن «السلطة ذات الصلاحية» هي المجلس النيابي، أي السلطة التشريعية (بحسب المادة 16 من الدستور)، لا سواها، فقد عاد حاكم مصرف لبنان وأرسل كتاباً آخر، بعد تشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب، أرفقه بمسودة مشروع قانون. وبمعزل عن مدى دستورية أو عدم دستورية مضمون المسودة (وهذا نقاش آخر نعود إليه في السياق)، إلّا أن المؤكّد أن الإحالة، على النحو المذكور، تعبّر في طيّاتها عن اعترافٍ من المصرف المركزي بعدم كفاية قانون النقد والتسليف لتنظيم القيود على حركة الأموال، سحباً وتحويلاً، من قِبل المصرف بذاته.

هيئة ناظمة للقطاع، لا للقيود
وبالفعل، يُعتبر مصرف لبنان بمثابة الهيئة الناظمة للقطاع المصرفي. وهو، بذلك، يتمتّع بأوسع الصلاحيات تجاه المصارف والمؤسسات المالية (وحتى الصيارفة المغرّدين في أسرابهم). لكنه ليس ولا يمكن أن يكون (وربما لا يرغب أن يكون)، بذاته وبحرفية وروحية قانون النقد والتسليف، هيئةً ناظمةً للقيود على حركة الأموال! والسبب في ذلك دستوريّ بحت، حيث إن حرية انتقال الرساميل (la libre circulation des capitaux) تتأتى من الفقرة «و» من مقدمة الدستور اللبناني التي نصّت صراحةً على أن النظام الاقتصادي حرّ. بل أكثر من ذلك، ولأنّ الحريات هي القاعدة وضبطها و/أو تنظيمها هو الاستثناء، فإنّ أيّ تنظيم للقيود على حركة الأموال لا يمكن أن يتم إلّا بموجب قانون يصدر عن مجلس النواب. ولنا في ذلك دلائل عدة، نذكر منها حرية الجمعيات، على سبيل المثال لا الحصر، حيث أبطل مجلس شورى الدولة بلاغاً صادراً عن وزير الداخلية يفرض قيوداً لا يفرضها قانون الجمعيات (قرار 18/11/2003، جمعية عدل/ الدولة).

الاختصاص المحجوز
ورغم عدم تضمين الدستور اللبناني فصلاً واضحاً بين المجال التشريعي والمجال التنظيمي، أسوة بما تضمّنه دستور الجمهورية الخامسة الفرنسي، إلّا أن العبرة تبقى، بالنسبة إلى أيّ تدبير، في مدى تعرّضه لاختصاص محجوز للسلطة المشترعة، إن بموجب نصّ دستوري صريح أو، كما سبق، بالاستناد إلى المبدأ الدستوري القائل بوجوب القانون في معرض تنظيم الحريات، فكمّ بالحري في معرض تقييدها. حتى إن المجلس الدستوري اللبناني، في قراره رقم 1 تاريخ 31/01/2002، اعتبر أنه لا يسع السلطة التشريعية أن تتوسّع في تفويض اختصاصها، معلّلاً بأنه «على كل سلطة عامة أنشأها الدستور أن تمارس اختصاصها المحجوز لها في أحكامه بنفسها وأنه لا يجوز لها أن تفوّض سلطة أخرى في ممارسة هذا الاختصاص، إلّا إذا سمح الدستور بهذا التفويض بموجب نصّ صريح، لأن هذا الاختصاص ليس امتيازاً شخصياً أو حقّاً خاصاً وإنّما وظيفة راعى الدستور في إيلائها إلى كل من السلطات أهلية السلطة وقدرتها لممارستها وبلوغ غاياتها، حتى إن مثل هذا التفويض إذا حصل من دون نصّ دستوري، إنما يكون قد أهدر مبدأ الفصل بين السلطات الذي يقيمه الدستور من المبادئ الأساسيّة للدولة». وقد ذهب بعض الفقه إلى حدّ اعتبار أن تخلّي المشترع عن صلاحيته في الموضوع الضريبي، مثلاً، إنما ينزل منزلة خرق الدستور (L. Philipe, Les fondements constitutionnels des finances publiques, Ed. Economica, p.55).

منحُ الصلاحيات الاستثنائية، حتى ولو تم بموجب قانون، إنما يبقى مقيّداً، هو الآخر، بحدود زمنية وموضوعية



حدود القانون
ورغم وجوب القانون، في المبدأ الدستوري وبالنظر إلى التقييد المنطوية عليه التدابير المزمع اتّخاذها، إلّا أن منح الصلاحيات الاستثنائية، حتى ولو تم بموجب قانون، إنّما يبقى مقيّداً، هو الآخر، بحدود زمنية وموضوعية. وبالفعل، في المدى الزمني، لا يمكن للقانون أن ينطوي على تقييد لحركة الأموال غير مضبوط المدّة، وعلى نحوٍ لا تستوجبه ظروفٌ بالغة الأهمية خلال تلك المدة، وإلّا كان القانون عرضة للطعن أمام المجلس الدستوري لمخالفته الفقرة «و» من مقدمة الدستور لجهة النظام الاقتصادي الحر. ويصحّ ذلك أيضاً في خطورة منح التفويض غير المحدّد المدّة لأيّ مرجع آخر، أو ترك تجديد المدّة لهذا المرجع من دون العودة إلى المجلس النيابي. كذلك، موضوعياً، فإنه يقتضي التدقيق في مدى ملاءمة التدابير المقررة، ولو بموجب قانون، ومدى اقتصارها على تنظيمٍ تستوجبه ظروفٌ استثنائية وطارئة، لا انطوائها على تقييدٍ يتخطى الآني ويذهب في اتجاه «تطبيع» ممارساتٍ مخالفة للمبدأ الدستوري.

وحدود معترف بها دولياً؟
هي حدود غير جغرافية التزم بها لبنان منذ 1947، سنة انضمامه إلى اتفاقية صندوق النقد الدولي. حدود تغيب عن رادار البعض في المتداول حول الموضوع، لكنها تفرض ذاتها على أي قانون قد يأتي بقيود على حركة رؤوس الأموال، لا سيما لجهة التحويلات. وبالفعل، تنصّ المادتان السادسة فقرة 3 والثامنة فقرة 2 من اتفاقية صندوق النقد الدولي، على تحريم القيود على المدفوعات و/أو التحويلات إلا في حالات استثنائية للغاية. وتذهب أيضاً في الاتجاه عينه أحكام مماثلة في اتفاقيات أبرمها لبنان مع بعض الدول (فرنسا، كندا...) حول الاستثمارات بينه وبين هذه الدول. ومن المعلوم أنه، «عند تعارض أحكام المعاهدات الدولية مع أحكام القانون العادي، تتقدم في مجال التطبيق الأولى على الثانية»، على ما ورد في المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية.

أسباب موجبة وتدابير موجعة
يدافع البعض عن التدابير التقييدية لحركة الأموال تحت عنوانين: الأول يرتبط بالخشية من انهيار المصارف إذا حصل ما يعرف بالتهافت عليها (Run on banks). والثاني يرتبط بالاستنساب الذي يعتري التدابير التي تتخذها المصارف خارج أيّ تنظيم ضابط لإيقاع القيود المفروضة. مع تأكيد ضرورة تنظيم القيود بموجب قانون وليس بموجب أي تدبير إداري مهما بلغ مستواه، ولفترة محددة جداً، فإن نجاح التنظيم يبقى معلّقاً على شرط، وهو مصارحة المودعين بحقيقة الأمور وبالأرقام، وبشرط أن يأتي التنظيم بهدف الخروج من الأزمة، ولو بعد حين، مع ضمان كامل لحقوق المودعين في هذه الأثناء. أما «قص الشعر» (Haircut)، فموضوع آخر وكلام آخر يطول، لكنه يستوجب، قطعاً، قانوناً من مجلس النواب، فيما لو وقع الخيار على فرضه.

عودٌ إلى المجلس
وعودٌ إلى كتاب الحاكم: «السلطة ذات الصلاحية». يتكرّر السؤال: لماذا تتنازل السلطة ذات الصلاحية (وهي ببداهة ما تقدّم: مجلس النواب، لا سواه) عن دورها وعن اختصاصها، بل عن واجبها في حماية اللبنانيين واللبنانيات وسائر المودعين من جنسيات العالم الذين وثقوا فأودعوا؟ ما العبرة في تخلّي المشترع اللبناني عن دوره الناظم، الضامن والمراقب؟ الفرصة لا تزال متاحة لكي يستعيد المجلس النيابي هذا الدور وربما أيضاً ثقةً اهتزّت في الشارع الغاضب، بعدما أنهكته سياسات مالية على مدى عقود. ولماذا تقبل السلطة التنفيذية أن تأخذ بصدرها طعناً بأيّ تدبير قد تتخذه، وهي تعلم ــ أو يجب أن تعلم ــ أنه مخالف للقواعد التي سبق تفصيلها؟
ثمة قول لشكسبير يصح في أحوالنا: «إذا كانت أوضاعنا سيئة، فالحق ليس على النجوم».

*محام ومحاضر في الجامعة اليسوعية