أصبح عدم سداد استحقاق سندات الـ"يوروبوندز" في 9 آذار المقبل خياراً جدّياً ومرجّحاً لدى الحكومة اللبنانية الجديدة. وقد بدأت فعلياً المشاورات مع صندوق النقد الدولي للحصول على "مساعدة تقنية" في عملية إعادة هيكلة الدين. يثير هذا الأمر سؤالاً محورياً: هل هناك احتمال أن يرفض حملة هذه السندات الخارجيون إعادة الهيكلة وتصنيفهم لبنان دولة متخلّفة عن السداد؟ لأن سندات الـ"يوروبوندز" التي تصدرها الدولة اللبنانية تتضمن بنداً تتنازل فيه الدولة عن حصانتها في المحاكم الخارجية، ولا سيما محكمة نيويورك، فمن الطبيعي أن يكون التركيز على احتمال لجوء الجهات الدائنة الخارجية إلى محاكم نيويورك للادعاء على الدولة.إن التنازل عن الحصانة يجعل الدولة اللبنانية عرضةً للمحاكمة في الخارج ولا يمكن لقوانين الحصانة السيادية في الدول التي قد تجري فيها المحاكمة أن تحمينا، لأن جميع هذه القوانين مشروطة بعدم وجود تنازل عن الحصانة، إلا أنه من المهم أن نعرف إذا كانت هذه القوانين تحفظ استقلالية مصرف لبنان المركزي عن الدولة في تطبيق أحكامها، وهذا الأمر محطّ نقاش كبير ربطاً بكون جزء من احتياطات المصرف المركزي اللبناني بالذهب والدولار موجوداً في نيويورك، بالإضافة إلى الذهب. ويبدو أن هناك جدلاً محلياً حول هذا الأمر لجهة وجود مخاطر على موجودات مصرف لبنان.

أركاديو اسكيفيل ــ كوستاريكا

في ورقتها البحثية بعنوان: "حصانة ممتلكات المصرف المركزي من تطبيق الأحكام"، تشير "إنغرد ويرث" إلى ثلاثة مناهج تتّبعها الدول في مقاربة موضوع حصانة المصارف المركزية من تطبيق الأحكام ضدّ الدول هي:
- المنهج الأول يعطي الحصانة شبه المطلقة لممتلكات المصارف المركزية، وهو طريق بدأت تسير فيه دول عدّة أخيراً مثل الصين والأرجنتين واليابان، وسبقتها إليه دول أخرى مثل المملكة المتحدة وجنوب أفريقيا. وهذا المنهج يتطابق أيضاً مع معاهدة الأمم المتحدة حول حصانات الدول التي صدرت عام 2004 إذ تنص الفقرة 21 منها على أن ممتلكات المصرف المركزي لديها حصانة من تدابير الأحكام الصادرة ضد الدول.
- المنهج الثاني وسطي، وقد يعطي الحصانة للمصارف المركزية بشكل خاص لكنها ليست مطلقة، هذا المنهج تتبعه الولايات المتحدة الأميركية نظرياً.
- المنهج الثالث متصل بالعمليات التجارية، ويوجب ألا تخضع للحصانة ممتلكات المصرف المركزي التي تستعمل في العمليات التجارية. هذا المنهج تتبعه دول مثل أستراليا وكندا.
ما يهمنا كلبنانيين هو النظر في القانون الأميركي، لأن أي إجراء قانوني ضدّ الدولة اللبنانية يرجّح أن يكون في محاكم نيويورك. كما أن بعض احتياطات مصرف لبنان بالدولار والذهب موجود هناك. وينص القانون الأميركي للحصانة السيادية للدول الأجنبية الصادر عام 1976، على أن حصانة الدول السيادية تحميها من الإجراءات القانونية، إلا ما يخصّ الممتلكات المستعملة في عمليات تجارية، لكنه يعطي حماية خاصّة لبعض الممتلكات والكيانات التابعة للدولة ومنها المصرف المركزي، إذ يذكر أن ممتلكات المصرف المركزي تتمتّع بالحصانة في حال كانت هذه الممتلكات "محمولة في حسابها الخاص". تفسير العبارة الأخيرة شكّل تحدياً أمام المحاكم الأميركية، فزوّدها الكونغرس بتفسير يميّز الممتلكات المحمولة في حساب المصارف المركزي التي تستعملها في عملياتها المعتادة التي تختلف عن الممتلكات المستعملة في العمليات التجارية.
في المقابل، تبنّى المدّعون مسارين لمواجهة هذا القانون؛ الأوّل ينطلق من تفسير بأن الأعمال الاعتيادية للمصارف المركزية هي أعمال تقوم بها المصارف التجارية، ما يعني أن كل ممتلكات المصارف المركزية تعتبر غير "محمولة في حسابها الخاص"، وبالتالي لا حصانة عليها. أما المسار الثاني، فينطلق من تفسير بأن الاستثناء الذي يخصّ المصارف المركزية في القانون هو غير مشروع أساساً لأنّ هذه المصارف ليست كيانات منفصلة عن الدولة وتخضع لحكومة الدولة ما يجعلها "شخصيّة بديلة" منها. والجدير ذكره أن المدعين في هذه الحالات هم صناديق استثماريّة متخصّصة بشراء السندات المتعثّرة أو المتوقّع تعثّرها، وهذا النوع من الصناديق متعارف عليه باسم "الصناديق الانقضاضية".
تمثّل حالة الأرجنتين أحد الأمثلة للمعارك القضائية في المحاكم الأميركية، إلى حدّ ما هي شبيهة بالحالة اللبنانية؛ فالأرجنتين توقفت عن سداد دينها البالغ 104 مليارات دولار واختارت إعادة الهيكلة. معظم حاملي الدين الأرجنتيني وافقوا على إعادة الهيكلة باستثناء صندوق استثماري انقضاضي تابع لصندوق إليوت الأميركي وكان يحمل 2.4 مليار دولار من هذه السندات. هذا الصندوق ادّعى على الدولة الأرجنتينية التي تخلّت عن حصانتها السيادية، مثل الحالة اللبنانية، أمام المحاكم الأميركية ومستعملاً المسارين المذكورين لمواجهة قانون الحصانة السيادية. في النتيجة رُفض طلب الصندوق بوضع اليد على ممتلكات المصرف المركزي الأرجنتيني في الولايات المتحدة، وهي كناية عن احتياطات المصرف بالدولار. المحكمة اعتبرت أن هذه الممتلكات التي تستعمل في عمليات تجارية هي ضمن الممتلكات المحمولة في الحساب الخاص بالمصرف، وأن الممتلكات غير الخاصة للعمليات التجارية هي في الأساس محصّنة إذا كانت ملك المصرف المركزي أو ملك الدولة مباشرةً.
إسقاط هذه النتيجة على حالة لبنان، قد يعني أن ممتلكات مصرف لبنان الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية يفترض أن تكون بمأمن عن أي تحرّك قضائي قد تتعرّض له الدولة اللبنانية في محكمة نيويورك.
من الحالات النادرة التي رفعت فيها المحاكم الأميركية الحصانة عن ممتلكات المصرف المركزي لدولة كانت ضد إيران في أحكام تتعلق بـ«الإرهاب»


من الحالات النادرة التي رفعت فيها المحاكم الأميركية الحصانة عن ممتلكات المصرف المركزي لدولة، كانت في قضية ضد إيران في أحكام تتعلق بـ"الإرهاب" ما أدّى إلى حجز مبلغ ملياري دولار تابع للمصرف المركزي الإيراني. فالقانون الأميركي للحصانة السيادية الأجنبية يسمح بإزالة الحصانة عن دول يعتبرها الرئيس الأميركي راعية للارهاب. لكن إيران ذهبت إلى محكمة العدل الدولية بحجّة خرق الولايات المتحدة اتفاق عام 1955 بين البلدين. إيران ادّعت أمام المحكمة بأن الاتفاق خُرق من خلال رفع الحصانة السيادية عن شركات ملك للدولة الإيرانية وبالأخص البنك المركزي. وإضافة إلى ذلك خرقت الولايات المتحدة البند رقم 19 من مؤتمر الأمم المتحدة، لأنها نفّذت حكمها القضائي على مؤسسة تابعة لإيران بدلاً من أن تنفّذه ضدّ الدولة في إيران مباشرةً، علماً بأن هذا الحكم الأميركي يمكن أن يصنّف حكماً سياسياً، وهذا الأمر قد لا ينطبق على الحالة اللبنانية.
في الخلاصة، إن القانون الدولي يضمن حصانة المصارف المركزية للدول، ويمكن في الحالة القصوى اللجوء إلى المحكمة الدولية لضمان عدم المساس باحتياطات لبنان في الخارج.
إذاً، على الحكومة اللبنانية إحصاء ما لدى المصرف المركزي من احتياطات في الخارج، من دولار وذهب، لأنه من غير المعقول اتخاذ قرار السداد أو الامتناع عنه من دون معرفة "الجردة" لاحتساب المخاطر المتعلقة بكل خيار. ومع ما ورد من صعوبات ومتاعب قد تنجم من الادعاء على لبنان في المحاكم الخارجية، فعلى الدولة اللبنانية أن تواجه المصارف التي باعت أخيراً سندات الـ"يوروبوندز" لجهات خارجية، لأن عملية كهذه كانت بمثابة جريمة بحقّ الدولة والشعب اللبناني، وعليها أيضاً أن تعمل على استرجاع أموالها وذهبها الموجود في الخارج تحسّباً للحالة الأسوأ، إذ قد تحتجز الولايات المتحدة هذه الممتلكات بناء ًعلى طلب الدائنين الأجانب.