لا تزال هناك آراء متفاوتة في ما خصّ تسديد الدين للبنان:ــــ هناك من يعتقد بأن من الضروري بالنسبة إلى لبنان الاستمرار في سندات الدين أصلاً، وفائدة سواء كانت ديوناً محلية أو خارجية من أجل الحفاظ على سمعة لبنان وقدرته المستقبلية على الاقتراض من الأسواق الخارجية.
ــــ هناك من يعتقد بأنه يجب على لبنان التوقف عن سداد الديون لأنه مهما فعل سيكون عليه القيام بعملية إعادة هيكلة للدين أو إعادة جدولة له، وأن من الأفضل أن يقوم بهذا الأمر من دون استنزاف احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبية.
ــــ هناك من يعتقد بأن على لبنان تسديد ديونه الخارجية التي لا تمثّل أكثر من 5.5% من مجمل ديونه ولا تمثّل أكثر من 14.5% من مجمل ديونه بالدولار، وإعادة هيكلة ديونه الداخلية.


هذه الاتجاهات تنطوي على معطيات فيها الكثير من التحليل المنطقي والواقعي. وجميعها تشير إلى أن لبنان عليه أن يتخذ قراراً بخصوص هذا الشأن قبل أن يصل استحقاق آذار 2020 الذي تبلغ قيمته 1.2 مليار دولار. عملياً، يقف لبنان بين خيارات صعبة ومفصلية؛ فمن جهة، هناك الكثير من المؤشرات التي توحي بأن احتياطات مصرف لبنان باتت مستنزفة، وأن ما تبقى منها لا يجب التفريط به على الدائنين. فالاحتياطات القابلة للاستعمال ليست كبيرة، فيما الاحتياطات الإجمالية باتت أقل من 30 مليار دولار من ضمنها 19 مليار دولار احتياطات إلزامية وضعتها المصارف لدى مصرف لبنان مقابل ودائعها، أي أن الاحتياطات الإجمالية الفعلية أقل من 11 مليار دولار. هذا المبلغ لا يكفي لتمويل الاستيراد الأساسي للبنان لأكثر من سنة على الأكثر، على اعتبار أن السلع الأساسية من مشتقات نفطية وقمح ودواء ومستلزمات طبية وسلع غذائية ومواد أولية للصناعة قد تتجاوز قيمتها 9 مليارات دولار.
وفي ظل مواصلة المصارف فرض قيود على عمليات السحب والتحويل والقطع (تحويل الليرة إلى دولار أو بالعكس)، فإن إعادة تكوين الاحتياطات أمر صعب جداً وبات يقتصر على جزء من تحويلات المغتربين. وهذه التحويلات باتت تقتصر على المبالغ الضرورية التي يرسلها المغتربون إلى أسرهم في لبنان، أي أنها تقلّصت عملياً عما كانت عليه سابقاً حين كان المغتربون يرسلون مدخراتهم إلى لبنان طمعاً في الاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة أو لتوظيفها في شراء العقارات التي كانت أسعارها ترتفع بشكل مطّرد. وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر باتت شبه معدومة أيضاً، لأنه لا مصلحة لأحد في أن يرسل أموالاً إلى لبنان في ظل استنسابية المصارف في تقييد حركتها ومنع خروجها من لبنان، ولو أن تعليمات مصرف لبنان تنصّ على أن التدفقات التي أتت بعد 17 تشرين الأول هي معفية من القيود.
وسط أجواء انعدام الثقة بالنظام المصرفي بكامله، ثمة من يقول إن التخلّف عن السداد أمر مقبول، إلا أنه لا يمكن القيام به من دون خطّة شاملة تتضمن التعاون مع صندوق النقد الدولي، وإلا فإن لبنان سيتحوّل إلى دولة فاشلة كباقي الدول التي تخلّفت عن السداد وستتدمّر سمعته. لكن أصحاب هذا المنطق يغفلون حقيقة أساسية، وهي أن لبنان أصلاً دولة فاشلة استعملت مدخرات المودعين من أجل تمويل الاستهلاك. بمعنى آخر، إن النموذج اللبناني استعمل جزءاً كبيراً من التدفقات من أجل تمويل شراء السلع والخدمات، وهذا الجزء المستعمل تبخّر عملياً ولم يعد موجوداً ضمن النظام المالي. السمعة السيئة التي ستلاحق لبنان على مدى سنوات طويلة، أنه سمح للمصارف بفرض قيود على القطع والسحب والتحويل بشكل استنسابي يتنافى مع القوانين ومع الدستور أيضاً.



لكن مشكلة الذين يطرحون ضرورة التخلّف عن السداد، أنهم يقعون في فخّ الإغراء المستند إلى أمر حقيقي وفعلي يساء تفسيره والتعامل معه. فالصحيح أن الذين حققوا الثروات عليهم أن يدفعوا الكلفة، لكن هذه الكلفة سترتّب أعباء اجتماعية ضخمة على مختلف الشرائح، وهذا ما يفرض التعامل مع الأمر بمنطق مختلف.
إن الكلفة الاجتماعية ستتأتى من عدم التمييز بين الديون الخارجية والديون الداخلية. الديون الخارجية هي المسألة الأساسية، لأن عقود الاستدانة عبر سندات اليوروبوندز المدرجة في أسواق اللوكسمبورغ، تمنح الدائنين حقّ اللجوء إلى محاكم نيويورك لمقاضاة لبنان في حال تخلّفه عن السداد، وهذا بدوره يستجلب وصاية صندوق النقد الدولي بشكل مباشر. ولا يختلف أصحاب هذا الرأي عن أولئك الذين يشيرون إلى ضرورة التفاوض مع صندوق النقد الدولي لرعاية عملية الإفلاس وإعادة الهيكلة عبر برنامج تقترض فيه الدولة اللبنانية المزيد من الدولارات من الخارج. أي معالجة السداد بالمزيد من الاقتراض من صندوق النقد الدولي والخضوع لشروطه المتشدّدة التي ستشكّل كارثة اجتماعية. يتوقع أن تكون أول مطالب صندوق النقد تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وزيادة الضرائب على الاستهلاك مثل رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 15% أو 20%، وفرض ضريبة على استهلاك البنزين...
التعامل مع الديون الداخلية أمر سهل نسبياً. فالدائنون المحليون هم المصارف ومصرف لبنان


لذا، لا بدّ من التمييز بين الديون الخارجية والديون الداخلية. التعامل مع الديون الداخلية أمر سهل نسبياً. فالدائنون المحليون هم المصارف ومصرف لبنان. ستكون المشكلة في كيفية معالجة الإفلاسات التي ستطاول المصارف بسبب الخسائر التي ستترتب على إعادة هيكلة الديون الداخلية، علماً بأن مصرف لبنان والدولة لديهما الكثير من الأدوات التي تتيح إجراء معالجات من هذا النوع على صعيد واسع. أما القلق الذي يحاول نشره أولئك المتعلقون بصندوق النقد الدولي عن أن إعادة هيكلة الديون الداخلية ستدفع وكالات التصنيف إلى خفض درجة تصنيف لبنان إلى «متعثّر»، فهو قلق غير مبرّر لأننا أصلاً في وضع المتعثّر، وكلفة المخاطر على الاستدانة مرتفعة جداً. ليس هناك فرق كبير بين الدرجة التي نحن فيها وبين درجة متعثّر. نحن نبعد درجتين فقط عن تصنيف «متعثّر»، فضلاً عن أن بعض الوكالات تصنّف ثلاثة مصارف لبنانية في درجة «التعثّر الانتقائي».

يجب وضع اليد على المصرف المفلس ويُفرض على كبار المودعين تحمّل نتائج إعادة الرسملة بالتوازي مع إعادة هيكلة القطاع بكامله


هكذا تبدو المسألة أكثر وضوحاً. الدين الخارجي تبلغ قيمته 4.8 مليارات دولار منه 4.66 مليارات دولار استحقاقات أصل السندات و153 مليون دولار فوائد تدفع شهرياً خلال السنوات المقبلة. تبلغ قيمة استحقاقات الديون (أصل وفائدة) خلال السنوات الخمس المقبلة 2.66 مليار دولار فقط، منها 2.5 مليار دولار أصل و86.7 مليون دولار فائدة. أليس لدى لبنان القدرة على تحمّل تسديد هذه المبالغ ليتجنّب الخضوع لصندوق النقد الدولي؟ الإجابة تكمن في وجود سلطة واعية لمخاطر هذا الأمر، لأنها إذا وافقت على السير بخطوة كهذه، يترتب عليها أن تكون مستعدة من خلال خطة واضحة لمواجهة المشاكل التي ستنشأ عن إعادة هيكلة الدين الداخلي، إذ عليها ألا تفرّط باحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من أجل إعادة تكوين رساميل المصارف، بل عليها أن تترك من يفلس للإفلاس وأن تضع اليد عليها وأن تفرض على كبار المودعين تحمّل نتائج إعادة الرسملة بالتوازي مع إعادة هيكلة القطاع المصرفي بكامله من خلال عمليات دمج واسعة النطاق. ما على الدولة ومصرف لبنان أن يقوما به هو ما فعله العديد من الدول التي فرضت على كبار المودعين التخلّي عن جزء من ودائعهم لتوظيفها في رساميل المصارف المفلسة.