ما فتئت الأصوات تتعالى للمطالبة بضرورة تأمين الشفافية في استثمار الثروة الموعودة من البترول والغاز، كما تسارعت الجهود الرامية إلى سنّ قوانين جديدة لحماية هذه الشفافية والتي أدّت حتى الآن إلى استصدار قانون حول حق الوصول الى المعلومات عام 2017، وقانون يستهدف مكافحة الفساد في حزيران 2019، في انتظار إنشاء هيئة خاصة لمكافحة الفساد، ومن دون أن ننسى قانون مكافحة الإثراء غير المشروع. ورافق ذلك كله تأسيس العديد من الجمعيات التي منحت لنفسها صفة وحقّ تمثيل المجتمع المدني بأسره في الدفاع عن الشفافية والسهر على ممارستها (ولكن من الآن فصاعداً) في كل ما يتعلق بالأنشطة الخاصة بصناعة البترول والغاز. ناهيك عن التأكيد وتكرار التأكيد منذ ما يقارب ثلاثة أعوام على «نيّة» السلطات المختصة أن تجعل لبنان «أول بلد، لا بل البلد الوحيد في العالم الذي يفكّر بتقديم طلب انتماء إلى منظمة مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجيةExtractive Industries Transperency International, EITI ــــ وذلك قبل أن يصبح بلداً منتجاً، وحتى قبل التأكد من وجود البترول والغاز تحت مياهه أو أراضيه.من البديهي طبعاً، أنه لا بدّ من اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة، كالشفافية وغيرها، لدرء خطر امتداد وباء الرشوة والفساد إلى صناعة البترول والغاز الناشئة، وخاصة في لبنان حيث أصبح الفساد سبباً رئيسياً في جرّ البلاد إلى شفير الإفلاس والانهيار الاقتصادي. إلا أنه لا بد أيضاً، لوضع الأمور في نصابها وإلقاء الضوء على الأهداف الحقيقية لحملة التطبيل والتزمير الراهنة حول الشفافية، من التذكير بالحقائق الآتية:
ــــ أولاً: لم يكن أحد يسمع الأصوات التي ارتفعت فجأة للمناداة بالشفافية بعد موافقة حكومة سعد الحريري، في بدء أول جلسة عقدتها في 4 كانون الثاني 2017، على مشروع المرسوم 43/2017 الذي أحيط بالسريّة التامة لنحو ثلاثة أعوام، بعد امتناع حكومة تمام سلام عن الموافقة عليه. السبب أن المرسوم المذكور يتضمن أحكاماً تشكّل تزويراً للمبادئ الأساسية التي قام عليها القانون البترولي 132/2010، وتشلّ دور الدولة المحوري في الأنشطة البترولية، إلى جانب شروط استثمار من الأسوأ في العالم لم ولا يقبل بها أي بلد من البلدان الأكثر جهلاً وتأخّراً. وفي طليعتها الشروط المالية، بما فيها مكوّنات دخل الدولة المرتقب التي حددها المرسوم المذكور كما يأتي: رسوم مساحات رمزية، وإتاوة (Royalty) تتراوح بين 5% و12% للبترول ولا تتجاوز 4% فقط لا غير من قيمة الإنتاج بالنسبة إلى الغاز، أي أقل من ثلث نسبة الـ 12,5% المطبقة في إسرائيل ومعظم بلدان العالم، وضريبة دخل على أرباح الشركات حدّدها القانون بـ 20%، مقابل معدل 26% في البلدان الأخرى. زد على ذلك أن المرسوم المشؤوم لا يأتي على ذكر العلاوات التي تتقاضاها عادة الدول المنتجة عند توقيع اتفاقيات الإنتاج وعندما يبلغ الإنتاج مستويات معينة. وهذا كله يعني تعرض لبنان لخسائر تقدر بمليارات الدولارات.
انطلاقاً من هذه المعطيات، يتضح أن الدخل الذي يمكن أن يأمله لبنان لن يتجاوز في أفضل الحالات 47% من أرباح الشركات العاملة خلال السنوات الأولى من الإنتاج، مقابل حصة 65 - 85% تتقاضاها الدول التي تطبق نظام تقاسم الإنتاج، أي النظام الذي نصّ عليه القانون 132/2010 والذي تم تزويره بالمرسوم 43 حيث تجرأ بعض موظفي هيئة إدارة البترول على إدخال المادة الرقم 5 التي تنصّ على أنه لن يكون للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى! وما زال الوضع معلّقاً بالنسبة إلى الدورة الثانية وما يليها.
ــــ ثانياً: إن المنادين، الحديثي العهد، بضرورة الشفافية، لا يشيرون لا من قريب ولا من بعيد إلى مساوئ ومخاطر شروط الاستثمار التعيسة الواردة في المرسوم 43. كأنهم يعتبرون أن كل شروط هذا المرسوم وعوراته أصبحت أمراً واقعاً لا مفرّ منه ولا بدّ من التسليم به، ولا مجال لتصحيحه. بتعبير آخر، إن الشفافية المطلوبة، بنظر هؤلاء، تترجم عملياً عبر التأكد من أنّ كل ما يحصل في صناعة البترول والغاز في المستقبل من الضروري أن يأتي مطابقاً للشروط الكارثية التي حدّدها موظفو هيئة البترول التابعين لوزير الطاقة وفق نصائح مستشارين أجانب ليس واضحاً لحساب من يعملون، بما فيها النصائح التي قضت بطرد الدولة من الأنشطة البترولية وبعدم إنشاء شركة وطنية مقابل الموافقة على دخل لا يتجاوز 47% من الأرباح. هذه النظرة الرعناء، لمفهوم الشفافية تجتزئ المشهد الأساسي، وهي تمثّل عملية تحايل وتضليل للتعتيم على التدابير التي اتخذت، حتى الآن، بهدف شلّ الدولة وتمهيد الطريق أمام بعض المصالح الخاصة لنهب البترول والغاز. أضف إلى ذلك أن بعض الذين استيقظوا أخيراً للمطالبة بالشفافية يدّعون التعاون مع منظمة «أعلن عما تدفع» (Declare What You Pay)، ويتعامون عن كون المنظمة المذكورة تعنى بتثبيت الشفافية بعد انطلاق الإنتاج عبر إجراء مقارنة بين ما تدفعه الشركات والدخل الذي يعلنه المسؤولون في الدولة المضيفة.
وبات معروفاً أن «الدخل البترولي» الوحيد الحاصل في لبنان، يعود لحصته من أرباح الشركات التي أجرت المسوحات الجيولوجية وباعت نتائجها (Data) قبل بضع سنوات بقيمة تفوق 200 مليون دولار. والأصوات التي انبرت أخيراً للمطالبة بالشفافية، فاتها حتى الآن التساؤل عن مصير هذا المبلغ وعن طريقة تقاسمه بين الشركات المعنية والمسؤولين الحكوميين والسماسرة. كما فاتها التساؤل عن أسباب توقيع العقود الخاصة بالمسوحات المذكورة من دون استدراج عروض ومن دون إعلان شروطها. عوضاً عن ذلك، يحاول ضجيجهم في وسائل الإعلام توجيه أنظار اللبنانيين إلى ما يمكن أن يحصل وراء الأفق المنظور، أي بعد بضع سنوات عندما يبدأ الإنتاج، من نوع وسائل وجهة التصدير أو سبل استعمال المليارات المزعومة التي قد تودع في الصندوق السيادي. وذلك في حين أن الحاجة الملحّة حالياً تستدعي تحديد أفضل الشروط الممكنة للحصول على هذه المليارات، وهي شروط تناقض كلياً تلك التي فرضها المرسوم 43.
إن الادعاء بتطبيق «النموذج البترولي النرويجي» كان ولا يزال وسيلة أخرى للغشّ


ــــ ثالثاً: إن الادعاء بتطبيق «النموذج البترولي النرويجي» كان ولا يزال وسيلة أخرى للغشّ، كما تدل على ذلك المقارنة بين ما فعلته النرويج منذ سبعينيات القرن الماضي لتطوير صناعة البترول والغاز في بحر الشمال وخطوات لبنان في هذا المجال التي تعارض «الوصايا العشر» النرويجية وعلى رأسها الشفافية وإنشاء الشركة الوطنية ستاتويل وإسهامها بكل مراحل صناعة البترول والغاز.
أما في لبنان، فقد اتسمت التدابير المتخذة بالتكتم المطلق، ما دفع النائب محمد قباني، رئيس لجنة الطاقة والمياه آنذاك، إلى القول في المجلس النيابي: «إن أسوأ ما تمتاز به مسيرة البترول في لبنان هو السريّة». سريّة «معيبة ومخجلة» كما قال، لأنها حالت دون تمكين أعضاء لجنة الطاقة من الاطلاع على مشروع مرسوم تطبيقي صاغوه بأنفسهم. حتى الآن، لم يحاسب كل من وقف وراء المادة 5 من المرسوم 43 التي طردت الدولة اللبنانية برمتها من المشاركة، علماً بأن مشروع إنشاء الشركة الوطنية لا يزال يتعثر في المجلس النيابي، فضلاً عن المنادين بضرورة الالتزام بالشفافية أو المدّعين بتطبيق النموذج البترولي النرويجي!
وأغرب ما في الأمر أن الجيولوجي النرويجي من أصل عراقي فاروق القاسم، الذي أدى، ولا يزال، دوراً رئيسياً في توجيه سياسة البترول والغاز في لبنان، كان المستشار الوحيد الذي خرج من الظلّ حتى الآن ليدافع، في مقال نشره في جريدة «الأخبار» بتاريخ 13 كانون الثاني 2018، عن كل جوانب هذه السياسة، ناصحاً اللبنانيين بعدم المشاركة في الأنشطة البترولية والتخلي عن فكرة إنشاء شركة بترول وطنية قبل اكتشاف البترول والغاز بكميات تكفي للإنتاج لعشرين عاماً على الأقل، بعكس ما فعلته النرويج وغيرها من أكثر من 70 دولة في العالم أنشأت شركات بترول وطنية تمثّل الدولة في عمليات الإنتاج وغيرها، وأصبحت بمثابة العمود الفقري لاقتصادات الدول المنتجة العربية وغيرها.
الأغرب من ذلك أن ما كتبه القاسم في المقال المشار إليه في «الأخبار» لا يناقض الواقع فحسب، بل يناقض أيضاً ما كتبه هو نفسه في كتابه «النموذج النرويجي: إدارة المصادر البترولية» الذي نشره في الكويت عام 2010 ليفسر كيف طبقت النرويج نظام المشاركة: «بدأت الشركة الوطنية ستاتويل تشارك في كل الرقع بنسبة لم تقلّ عن 50% من الحصص. بالإضافة الى ذلك، كان بإمكان الشركة أن ترفع حصّتها إلى ما بين 70% و80% وفقاً لحجم الاكتشاف. وفي كل الاتفاقات، كانت ستاتويل في ذلك الوقت محمولة (carried) من قبل الشركات الأخرى طوال فترة التنقيب. ويعني هذا أن الشركات الأخرى كانت تدفع حصة ستاتويل من تكاليف التنقيب، على أمل استرجاعها في حالة تحقيق الإنتاج» (صفحة 51).
ربما نسي المستشار المذكور ما كتبه بنفسه، إذ قال في مقاله في «الأخبار»: إن التجربة النرويجية كانت ولا تزال مبنية على نظام الامتياز بعد تحويرات وتطويرات مهمة حتى قبل نهاية القرن الماضي. كلامه هذا صحيح بالنسبة إلى القرن الحالي، إلا أنه يناقض ويتكتّم عما كانت تفعله النرويج «قبل نهاية القرن الماضي» حين كانت في وضع يشبه الوضع الحالي في لبنان وتلبّي الحاجة لمشاركة الشركات الأجنبية لاكتساب الخبرة اللازمة وتطوير شركتها الوطنية. أما محاولة إخفاء هذا الواقع على اللبنانيين فهي نوع موصوف من الغش والتضليل.
هذا ما حمل ندوة العمل الوطني التي أسّسها الرئيس سليم الحص على توجيه كتاب مفتوح إلى وزيرة خارجية النرويج للاستفهام عما إذا كانت السلطات النرويجية المختصة على علم بما كتبه فاروق القاسم، وبالدور المؤذي الذي يقوم به، مع التذكير بالمناصب العالية التي سبق أن احتلّها في إدارة البترول النرويجية. دور مؤذٍ لسمعة النرويج الرائدة في هذا المجال، فضلاً عن كونه دوراً كارثياً بالنسبة إلى لبنان. مع الإشارة إلى أن كتاب الاستفسار الذي صاغته ندوة العمل الوطني تم توجيهه الى السلطة النرويجية المختصة عبر مستشارها القانوني، المحامي الفرنسي وليام بوردون، مؤسس ورئيس منظمة Sherpa المختصّة بمكافحة الفساد على الصعيد العالمي.
في انتظار جواب الحكومة النرويجية، يمكن القول إن الإدعاء بتطبيق النموذج البترولي النرويجي ليس سوى أحد أساليب التضليل المتّبعة لإلهاء اللبنانيين ونهب ثروتهم الموعودة. أساليب ستؤدي إذا استمرّت إلى أكبر عملية فساد وهدر للثروة الوطنية في تاريخ الجمهورية اللبنانية.