يرفض أصحاب شركات مستوردي النفط في لبنان وسمهم بمصطلح «كارتيل» لتوصيف بنية نفوذهم التجاري وآليات عملهم. حجّتهم أن كلمة «كارتيل» مصطلح تقنيّ لا تنطبق شروطه عليهم، وتظهرهم وكأنهم «عصابة مخدرّات»، فيما التعريف التقني لهذا المصطلح يدلّ على احتكار عدد محدود من الشركات التي تنتج أو تتاجر بسلعة ما وتتّفق في ما بينها على التحكّم بأسعارها بما يؤدّي إلى إلغاء المنافسة لتحقيق مزيد من الأرباح. «وبما أن أسعار المشتقات النفطيّة في لبنان محدّدة من الدولة، وتتنافس الشركات في ما بينها لبيع البنزين والمازوت لمحطّات الوقود عبر حسومات على فواتير الشراء تتراوح بين 10% و15% فوق الجعالة المخصّصة للشركات من الدولة وفق جدول تركيب الأسعار، فإنّ توصيف كارتيل لا ينطبق علينا»، بحسب أحد مالكي الشركات.
تصميم: رامي عليّان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لا شكّ بأنّ التعريف التقنيّ الأوسع عالمياً لمصطلح «كارتيل» أنه عبارة عن تجمّع للشركات يدلّ على «احتكار القلّة»، وتمركز العمليات بيدها. ولا يتضمّن الاتّفاق في ما بينها معياراً محدّداً، بل قد يشتمل على معايير عدّة، من بينها الأسعار وحدودها، خفض الإنتاج أو زيادته، تثبيت حصص السوق، تقسيم المناطق، تغيير شروط البيع، الاشتراك في العمليات التجارية... وقد يكون خليطاً من أكثر من معيار واحد. إسقاط هذا التعريف على شركات استيراد المشتقّات النفطيّة في لبنان، يشي بأنّ هناك اتّفاقاً - عامودياً أو أفقياً - بين الشركات حول مجموعة من المصالح المشتركة التي قد تتضمّن معياراً أو أكثر، وليس بالضرورة أن يشمل أيّ منها التسعير أو المنافسة على الحصص السوقية، وإنّما الاتّفاق على مواجهة كلّ ما يهدّد المصالح المشتركة في سوق تسيطر عليها الشركات عبر قدراتها التخزينية. صفة «كارتيل» قد تكون أوضح تعبير اقتصادي للاتّفاق المذكور، لكن العلاقات الاجتماعية والسياسية بين أصحاب هذه الشركات تجعلهم أكثر من «كارتيل»، بل ينطبق عليهم مصطلح «أوليغوبولي» الذي يشير إلى قدرة أيّ مجموعة (النماذج المعروفة عالمياً هي شركات الطيران، المصارف، منظمة الدول المصدرة للنفط، صناعة السيارات...) على السيطرة على عرض السلعة في السوق. وفي لبنان، تبدأ سيطرة الشركات المستورِدة انطلاقاً من قدراتها التخزينية للكمّيات المستوردة، وتصل إلى حدود السيطرة على أكثر من نصف محطات الوقود.
إذاً، ما هي المعايير التي يتّفق عليها مستوردو النفط في لبنان؟
عندما توقّف مصرف لبنان والمصارف عن تمويل استيراد المشتقات النفطية بالدولار المحدّد سعرها وسطياً بقيمة 1507.5 ليرة مقابل الدولار الواحد، انتقل المستوردون إلى البحث عن الدولارات لدى الصرّافين واشتروها بأسعار أعلى مما يحدّده مصرف لبنان. في البدء كان الدولار بـ1550 ليرة وواصل الارتفاع ليبلغ 2350 ليرة في 21 تشرين الثاني. منذ انفجار هذه الأزمة، كانت مساعي شركات استيراد النفط موحّدة في اتّجاه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس الحكومة سعد الحريري ووزيرة الطاقة ندى البستاني، مطالبين بتأمين الدولارات بالسعر المحدّد من مصرف لبنان، أو بزيادة سعر مبيع صفيحة البنزين والمازوت للمستهلك، بما يعكس انخفاض قيمة الليرة تجاه الدولار في السوق الموازية (لدى الصرافين) ما يكبّدهم خسائر ستأكل من حصتهم في الأرباح المحدّدة في جدول تركيب الأسعار. خلصت المساعي إلى إصدار سلامة تعميماً ادّعى هؤلاء أنه يكبّدهم خسائر إضافية بعشرات ملايين الدولارات بسببب تضمينه أكلافاً إضافية، فعمدوا إلى تنفيذ إضراب والامتناع عن تسليم البنزين للمحطات، فيما امتنعت المحطات المملوكة من الشركات عن بيع البنزين للمستهلكين. وعندما تبيّن أن المساعي قد تصل إلى حلّ ما، تمكّنت شركات الاستيراد من كسر الإضراب الذي حاول تنفيذه أصحاب المحطات المستقلون.

تصميم: رامي عليّان


تصميم: رامي عليّان


لكنّ المشكلة باتت أكثر تعقيداً عندما قرّرت الدولة عبر منشآت النفط، إطلاق مناقصة استيراد 150 ألف طن بنزين. يومها التفّت الشركات حول بعضها البعض واعترضت كمجموعة واحدة على عدم قانونية استيراد الدولة لمادة البنزين، فيما امتنعت الغالبية عن المشاركة في المناقصة. ولم تكتفِ بذلك، بل دفعت أصحاب المحطات إلى تنفيذ إضراب استمرّ يومين. في ذلك الوقت سُرّب تسجيل صوتيّ لممثل نقابة أصحاب المحطّات فادي أبو شقرا يقول فيه: «إذا كانت الشركات بخير فنحن أيضاً بخير».
المصلحة المشتركة نفسها دفعت مستوردي المشتقّات النفطية إلى التكتّل في وجه منشآت النفط عندما قرّرت تلزيم خزانات النفط في طرابلس. أعدّ هؤلاء كلّ قوّتهم السياسية واستنفروا شراكاتهم مع قوى سياسية نافذة اعترضت بدورها على تركيب خزانات استراتيجية للنفط بسعة 450 ألف طن، أي ما يوازي القدرات التخزينية لكلّ شركات الاستيراد العاملة في لبنان.
كلّ هذه المواقف الموحّدة جاءت في عزّ تنافس الشركات المستوردة على بيع البنزين لمحطات الوقود، وانقسامها الذي دفع تحالف شركتي «كورال أويل ــ ليكويغاز» إلى الانسحاب من عضوية التجمّع على خلفية التنافس بين «ليكويغاز» و«هيبكو» على الاستحواذ على «كورال أويل» بعدما فازت الأولى بها وباتت تملك الحصص السوقية الأكبر في السوق. رغم ذلك بقي هؤلاء كلّهم في تجمّع واحد لتزويد الطائرات في مطار بيروت بالوقود وتمكّنوا من تقاسم الأدوار رغم التجاذبات بين مالكي «كورال أويل» الجدد ومالكي «هيبكو».
ما هو مشترك بين هذه الشركات أنها جميعها تملك شركات توزيع بالإضافة إلى موزّعين محليين غير مستوردين للنفط. كما أنها تستحوذ على 55% من محطات الوقود المرخّصة. فمن أصل 3500 محطّة في لبنان، هناك 2400 محطّة مرخّصة أكثر من 1300 منها تقع تحت سيطرة الشركات المستوردة مباشرة أو عبر عقود.
وإلى جانب محطات وقود تملك الشركات أو تتعاقد مع صهاريج للنقل والتوزيع إلى جانب الصهاريج المستقلّة بملكيتها. فمن أصل أسطول للنقل قوامه 1250 صهريجاً بحسب الرخص الصادرة عن وزارة الطاقة، تسيطر الشركات على أكثر من 850 صهريجاً سواء كانت مملوكة منها مباشرة أو متعاقدة مع كلّ شركة حصراً.

تصميم: رامي عليّان


تصميم: رامي عليّان

واللافت أن الشركات المستوردة متحالفة أو متشاركة مع قوى سياسية نافذة تحافظ على مصالحها وترعاها في مقابل قد يكون في غالبية الأحيان «غير منظور»، وقد يكون أساسياً مثل حصّة النائب وليد جنبلاط في شركة «كوجيكو» و«ناتغاز»، وقد يكون على شكل عقود مع مؤسسات رسمية مثل تلك التي حصلت عليها «ميدكو» لعشرات السنين مع الجيش وقوى أمنية أخرى لتزويدها بالمازوت والبنزين، وقد يكون على شكل رعاية للمؤتمرات مثل التي يحصل عليها وزير الخارجية جبران باسيل عبر شركات «ليكويغاز» أو «كورال أويل»، أو قد يكون أيّ أمر آخر كالذي تقوم به شركة «زد آر» أو «بي بي اينرجي» (علماً بأن هذه الشركة لديها شراكة واضحة مع «كوجيكو» المملوكة من جنبلاط)، أو قد تكون شركة لديها بعد إقليمي ودولي مثل «توتال» المملوكة من «توتال ــ فرنسا»، وشركة «وردية» التي تحمل علامة «موبيل» العالمية والمملوكة من سموأل بخش السعودي.
بحسب إحصاءات وزارة الطاقة، يبلغ عدد الشركات العاملة في استيراد النفط 17 من بينها 5 شركات تستورد الغاز. ويمكن لأيّ شركة الحصول على رخصة من وزارة الطاقة لاستيراد المشتقات النفطية، إلّا أنّ شرطها مرتبط بشكل مباشر وأساسي بالقدرة التخزينية، أي إنه يتوجّب على كلّ شركة أن تكون لديها خزانات على شاطئ البحر لتفريغ حمولة الشحنات المستوردة، وهذا الأمر بات صعباً جداً اليوم على أيّ شركة تريد الدخول إلى السوق، نظراً إلى ندرة الأراضي المتاحة لهذا الغرض، ولضخامة الاستثمارات التي يجب ضخّها من أجل بناء خزانات جديدة في سوق ضيّقة نسبياً كلبنان، علماً بأن القدرة التخزينية للشركات الـ13 تبلغ 533 ألف طن متري.
المشترك بين المستوردين أنهم يملكون شركات توزيع ويستحوذون على 55% من محطات الوقود المرخّصة و68% من أسطول النقل


في المقابل، تملك منشآت النفط المملوكة من الدولة اللبنانية قدرة تخزينية إجمالية تبلغ 730 ألف طن متري تشغّل منها حالياً خزانات بطاقة استيعابية تبلغ 247 ألف طن، وهي تستورد المازوت فقط، وأطلقت مناقصة استيراد بنزين ستفضّ عروضها اليوم. أما حصّة الشركات من مبيعات البنزين المقدّرة بنحو مليوني طن سنوياً، فقد كانت كاملة على مدى العقود الماضية، ولكنّها قد تتقلص إذا نجحت مناقصة المنشآت لاستيراد 150 ألف طن. كذلك تستحوذ الشركات المستوردة على ثلثي مبيعات المازوت الأخضر الذي بات الوحيد المسموح إدخاله إلى لبنان، والثلث الباقي تستورده وتوزّعه منشآت النفط.
إلى ذلك، تستورد الدولة لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان، أي لتشغيل معامل الكهرباء، كميات من الفيول أويل والمازوت عبر عقود يُفترض أنها من دولة لدولة مع سوناطراك المملوكة من الدولة الجزائرية، ومع الكويت عبر شركتها الوطنية. غير أن هناك إجماعاً من مجموعة واسعة من مستوردي المشتقات النفطية والمسؤولين الرسميين على أن هناك شركة واحدة تستورد الكمّيات المتعاقد عليها مع الدولة اللبنانية باسم الشركة الكويتية الوطنية وباسم سوناطراك. وهي شركة «بي بي اينرجي»، ويتردّد أيضاً أنه في الفترة الأخيرة بات لديها شريك في هذه العمليات بحصّة الثلثين هي شركة «زد آر».



«فوز» المستوردين
بموجب تعميم مصرف لبنان يتوجّب على كلّ مستورد لشحنات النفط أن يؤمّن 15% من قيمة كلّ شحنة بالدولار ومسبقاً ويودعها لدى مصرف لبنان، وعليه أن يدفع عمولة 0.5% من قيمة الشحنة مقابل حصوله على تمويل بالدولارات الـ85% الباقية بأسعار مصرف لبنان. ادّعى المستوردون أن كلفة الـ15% على وارداتهم ستأكل القسم الأكبر من الأرباح، وأنهم لن يبيعوا المازوت والبنزين للمحطات إلّا إذا دفعت بالدولار، وهذه الأخيرة نفّذت إضرابات بحجّة أن أرباحها المحدّدة بنسبة الجعالة من المبيعات والبالغة 1900 ليرة من كلّ صفيحة بنزين ستتآكل بنسبة موازية لوزن الـ15% تبعاً لسعر الليرة لدى الصرّافين، أي أنّها ستتقلّص بقيمة 765 ليرة. لذا أصدرت الوزيرة قراراً يوزّع الكلفة الإضافية الناتجة عن هذه النسبة من الدولارات المطلوب تأمينها من السوق الموازية على الشكل الآتي: 150 ليرة على المستورد، 100 ليرة على شركات التوزيع، 40 ليرة على أجرة النقل، و475 ليرة تُحسم من عمولة صاحب المحطة.
المفاجأة أن جدول تركيب الأسعار، وبدلاً من إشراك المستوردين بتحمّل الكلفة، عمد إلى منحهم أرباحاً إضافية بقيمة تتراوح بين 740 ليرة و240 ليرة إضافية تتغيّر بحسب تقلّبات سعر الصرف تجاه الدولار (انظر سيناريو 1 و2).
تركيب السعر الصادر يوم الأربعاء الماضي يتألف من 4 عناصر بالإضافة إلى الرسوم والضريبة على القيمة المضافة:
ــ ثمن كلّ كيلوليتر بنزين من عيار 95 أوكتان (755 طناً) يوازي 771250 ليرة (كان في الجدول الماضي 736000 ليرة)
ــ حصّة شركة التوزيع 10000 ليرة (كانت 15 ألف ليرة)
ــ أجرة النقل 16000 ليرة (كانت 18 ألف ليرة)
ــ عمولة صاحب المحطة 71250 ليرة (كانت 95 ألف ليرة)
كل كيلوليتر = 50 صفيحة بنزين: هذا يعني أن شركة التوزيع خسرت 100 ليرة، وأن أجرة النقل تراجعت 40 ليرة، وأن عملة صاحب المحطة تراجعت 475 ليرة.
أما بالنسبة إلى المستوردين فالحسابات تكون على الشكل الآتي:
سعر طن البنزين بحسب نشرة البلاتس لم يتغيّر وبلغ 590 دولاراً يُضاف إليها 20 دولاراً بدل نقل ومصاريف اعتماد وخلافه، و3 دولارات عمولة مصرف لبنان (0.5% من قيمة كل شحنة)، أي ما مجموعه 613 دولاراً.
نسبة الـ15% المطلوب تأمينها من دولارات الصرافين تساوي: 613*15/100= 91.95 دولار. أما النسبة الباقية المموّلة من مصرف لبنان فقيمتها 521 دولاراً أو ما يوازي 789315 ليرة.

سيناريو 1
إذا كان سعر الدولار بقيمة 2000 ليرة، فإن الـ91.95 دولار تساوي 183900 ليرة وبالتالي فإن ثمن البضاعة يصبح 183900+789315= 973215 ليرة لكلّ طن (*0.755 لتحويله إلى الكيلوليتر) أو ما يوازي 734777 ليرة، أي أقل من ثمن البضاعة الوارد في جدول تركيب الأسعار بقيمة 36472 ليرة للكيلوليتر، أو ما يوازي 36.5 ليرة لكلّ ليتر أو 729.5 ليرة لكلّ صفيحة.

سيناريو 2
إذا كان سعر الدولار بقيمة 2350 ليرة (الحدّ الأقصى الذي بلغه سعر الدولار)، فإن الـ91.95 دولار تساوي 216082 ليرة وبالتالي فإن ثمن البضاعة يصبح 216082+789315= 1005397 ليرة لكل طن (*0.755 لتحويله إلى الكيلوليتر) أو ما يوازي 759075 ليرة، أي أقل من ثمن البضاعة الوارد في جدول تركيب الأسعار بقيمة 12174 ليرة للكيلوليتر، أو ما يوازي 12.1 ليرة لكل ليتر أو 243.5 ليرة لكل صفيحة.


70353 طناً
هي القدرة التخزينية لسبع شركات تستورد الغاز وتوزّعه محلياّ تستأجر هذه الشركات كلّ الخزانات المتوافرة في لبنان، وهي لا تستعمل بعضها نهائياً بل تدفع كلفتها ضمن هدف أساسي: تعزيز احتكارها لهذه المادة. تستحوذ غاز الشرق على 64% من القدرة التخزينية، وصيداكو على 9% ويونيغاز على 7.4% وأبيك على 5.6%، ونوردغاز على 4.7% وليكويغاز على 5.1%، وميدكو على 4%. لكن من بين هذه الشركات هناك شركة واحدة تستورد الغاز هي غاز الشرق والبقية الأخرى تتعاطى معها باستثناء شركة ليكويغاز التي لا تعمل في هذا المجال إطلاقاً