يتردّد، منذ مطلع السنة الجارية، في الصحافة العالمية، أنه أصبح محتماً على الدولة اللبنانية أن تعيد هيكلة دينها السياديّ. ومع انتصاف العام، بدأ ثقل الديّن العام معطوفاً على جفاف السيولة من الأسواق الماليّة، ينعكسان بشكل واضح على يوميّات اللبنانيين، حتى بات الحديث عن إعادة هيكلة الدين العام مادة يومية في الصحافة المحلية والأجنبية. كان هذا الحديث من المحرّمات، وكلّنا نذكر حال الهلع التي أصابت الدولة حين لمّح وزير المالية في بداية العام إلى احتمال القيام بإعادة الهيكلة.
قصّة الشعر
إعادة هيكلة الدين العام، التي يتم تداولها في الحيّز العام اليوم، يُطلق عليها مصطلح «قصّة الشعر». وهي عمليّة تقليص قيمة الديون التي يتوجّب على المدين دفعها، عبر مجموعة من الأدوات تتناسب مع نوع الدّين والدائن.
ممارسة إعادة هيكلة الدين ليست حديثة، بل يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر. إلا أن شكلها الأحدث، أي «قصّة الشعر»، بُني على أسس «صفقة برِيْدي». وهذه الأخيرة هي خطّة وضعها في عام 1989 وزير الخزانة الأميركي، في حينه، نيكولاس بريْدي. ويشرح فِديريكو شتروزنغّر وجِرومين زِتّلمِيْر، في كتابهما «التخلّف عن دفع الديون وعقد من الأزمات»، أنّه مع نهاية سبعينيات القرن الماضي، بدأت موجة من التعثّر في سداد الدين السيادي تضرب عدداً كبيراً من الدول الناميّة ودول الكتلة الشرقيّة المنفتحة حديثاً على الأسواق الماليّة العالميّة. وصلت هذه الموجة إلى ذروتها مع انتصاف الثمانينيّات، حيث فشلت كل خطط إعادة هيكلة الدين المعتمدة على التخفيضات الطفيفة لقيمة الدين وإعادة تمويل الديون وتحفيز الإقتصادات لتحقيق نمو في الناتج المحليّ الإجماليّ بهدف خفض نسبة الدين للناتج. وفي النهاية قدّم بريْدي خطّته القائمة على خفض كبير في صافي قيمة الدين الحاليّة مقابل إصلاحات اقتصاديّة تحت إشراف صندوق النقد الدوليّ، وتحسينات على شروط الديّن تحمي الدائنين من جولة جديدة من عدم السداد. هذه التحسينات كانت على شكل إصدار سندات بالدولار من دون تقسيط لخدمة الدين تُدفع بكلّيتها عند تاريخ الإستحقاق.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

أما خفض صافي قيمة الدين، فقد تطوّرت أدواته مع الأزمات المتتالية. فمع موجة التعثّر في السداد التي ضربت روسيا وأوكرانيا والأرجنتين وفيتنام والأرورغواي، بين عامي 1997 و2005، أصبح الدائنون يختارون من لائحة الأدوات عند اللجوء إلى «صفقة بريدي». فيمكن أن تتنوّع الأدوات بين خفض قيمة خدمة الدين عبر استبدال السندات بإصدارات جديدة تحمل القيمة الظاهرية نفسها ولكن مع نسبة فائدة أقلّ، أو خفض أصل الدين عبر استبدال السندات بإصدارات تخفّض القيمة الظاهريّة للسندات القديمة بشكل كبير ولكن تحمل نسبة الفائدة السوقيّة، وفي بعض الحالات تُدمج مع تأجيل تاريخ الإستحقاق. ويمكن اختيار أحد هذه الحلول أو اللجوء إلى التنويع بينها بحسب الظروف الخاصة بكل دولة.

المعايير والأثمان
وهنا تحضر إلى الأذهان العوامل التي تحدّد الحلّ أو توليفة الحلول التي يجب اللجوء إليها من لائحة «صفقة بريدي». يحدّد أوديابير داس ومايكل بابيَيونو وكريستوف ترِبيش، في ورقتهم البحثيّة «إعادة هيكلة الدين السيادي 1950 - 2010»، العوامل الأساسيّة بثلاثة: العامل الأول هو العودة إلى حالة «القدرة على تحمّل الدين»، أي أن تكون نسبة الدين للناتج المحليّ الإجمالي مقبولة، وهذا تحدّده عوامل كثيرة مثل نسبة الدين الخارجي للناتج ونسبة الديون القصيرة الأجل للإحتياطات ونسبة الدين العام لدخل الدولة ونسبتي النمو والتضخّم.
العامل الثاني هو حجم الخسائر التي ستلحق بميزانيّات الدائنين، بالأخص إذا كانوا من المصارف. ففي حال كانت المصارف الدائنة ستواجه خطر الإفلاس على إثر عملية تقليص حجم الدين، عادة ما تكون إعادة الهيكلة منخفضة، أي ما دون الـ20%، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه في اليونان عام 2012، وبسبب الانكشاف الكبير للمصارف على الدين السياديّ اليوناني، وصلت الدولة اليونانيّة إلى اتفاق مع الدائنين من القطاع الخاص لإعادة هيكلة بنسبة 21%، رفضها مسؤولو الإتحاد الأوروبيّ وضغطوا لرفع النسبة إلى 50% وقدّموا حزمة لإعادة رسملة المصارف المتضرّرة بقيمة 48 مليار يورو. أمّا العامل الثالث فهو المفاضلة بين تبعات الدين على المديين القصير والطويل. وهنا لا بد أن نتكلّم عن ثمن «قصّة الشعر».
يشرح كريستوف ترِبيش وجوان كروسيس في ورقتهما البحثيّة «التخلف عن سداد الدين السياديّ: ثمن قصّة الشعر»، أن لإعادة هيكلة الدين العام أثماناً. وهذه الأثمان تتمحور حول سهولة الوصول إلى أسواق الديّن العالميّة بعد إعادة الهيكلة، حيث ترتبط الصعوبات التي ستواجهها الدولة بحجم الخسائر التي تكبّدها الدائنون على أثر قصّة الشعر. ويضيف شتروزنغّر وزِتّلمِيْر أن الأثمان تتضمن أيضاً تأثيراً سلبيّاً على التجارة الخارجيّة الثنائيّة مع الدول الدائنة. وكذلك تحثّ عملية إعادة الهيكلة رؤوس الأموال على الهرب من البلد بسبب فقدان الثقة بالدولة ونظامها الماليّ بشكل أساسيّ. ويضيفان أن الأزمات الأكثر حدّة قد تدفع إلى انهيار القطاع الماليّ المحلّي.

التوقف عن السداد
ولكن هل وصفة «قصّة الشعر» هذه هي الحلّ الوحيد أمام بلد مثل لبنان؟ وإن كانت كذلك هل نبادر نحن إليها أو ننتظر أن نعجر عن سداد أول استحقاق وندع الآخرين يبادرون عنّا؟ أمام حجم انكشاف القطاع المصرفيّ اللبنانيّ على الدين السياديّ هل بإمكاننا القيام بقصّة شعر ذات تأثير فعليّ في هذه المرحلة المتأخّرة من الأزمة، ومن دون ضرب القطاع الماليّ في البلد؟ أم أنّ المقايضة أصبحت بين أن ننقذ البلد أو أن ننقذ القطاع المصرفيّ؟
في خضمّ هذه الأسئلة يبرز احتمال آخر، وهو التوقّف عن السداد كليّاً ومن دون مقايضة السندات الحاليّة بأي إصدارات جديدة. خطوة كهذه يجب أن تنطلق من فهم علاقة الدولة السياديّة بالدائنين، وهنا يجب أن نعود إلى ورقة هيرشيل غروسمان وجون فان هويك «الدين السياديّ كمطالبات مشروطة: التخلّف عن السداد المبرّر ورفض السداد والسمعة». ينطلق المؤلّفان من أن القدرة على الإخلال بالإلتزامات من دون الحاجة إلى الخضوع لقوّة قاهرة من العوامل الضروريّة للسيادة، وأنّ دافع الدولة السياديّة الوحيد للوفاء بالتزاماتها تجاه دائنيها هو الحفاظ على سمعتها والثقة بها، للحصول على المزيد من القروض في المستقبل.
كان على الدائنين وضع حدّ لاستدانة «الدولة السيّئة»


فعملية الإقتراض بالنسبة للدولة هي عملية نقل للمخاطر، عن الدولة إلى الدائن أو عملية تقاسم المخاطر بينهما. وهذه العملية تحتاج إلى عامل الثقة بين الدائن والدولة السياديّة وإلاّ لما قبل الدائن بأن ينقل المخاطر إلى عاتقه. ومن هنا فإنّ عملية الإقتراض محكومة بتوازن للحفاظ على الثقة، تحرص الدولة على إبقائه، بحيث أن المكاسب على المدى القصير من جرّاء التوقّف عن الدّفع يجب أن تكون أقل بكثير من الثمن على المدى الطويل لفقدان الثقة. وفي الوقت عينه يتعامل المؤلّفان مع الدين على أنّه مطالبات مشروطة. والمطالبات المشروطة هي مشتقات ماليّة تعتمد أرباحها المستقبليّة على شروط مستقبليّة لحالة الأصول المرتبطة بها. وفي هذه الحالة على الدائن الإنتباه إلى وضع الدولة السياديّة التي يقرضها، ويضع حدّاً لإقراضه لها بالأخص إذا تبيّن أنها «دولة سيّئة»، وإلاّ لا يحقّ له أن يطالب بكامل فوائد استثماره. ومن العوامل التحذيريّة، التي وضعها غروسمان وفان هويك على الدولة السيئة، هي استعداد الدولة للإقدام على المخاطرة، والعوائد الصافية المنخفضة لاستثمارات الدولة، وعدم ضمان القرار السياديّ في الدولة. ضمن هذه الحدود التي رسمها غروسمان وفان هويك، نجد أن التخلّف عن الدّفع المبرّر هو عندما تكون الدولة سيّئة ويستمرّ الدائنون بإقراضها من دون أن يضعوا سقفاً لهذا الإقراض، أي أن تدخل في أزمة اقتصادية حادة، أو في حالات الحروب.

كيف نوزّع الأثمان؟
ومن هنا يمكننا الانطلاق نحو نقاش أوسع حول كلفة التوقف عن الدفع بقرار سياديّ. فهل الدولة اللبنانيّة «دولة سيّئة» كان يجب على الدائنين أن يضعوا حدّاً لاستدانتها؟ ألم يكن من الواضح منذ عقدين أن عوائد الاستثمارات منخفضة جداً؟ ألم يكن من الواضح منذ عقد أنّ القرار السياديّ في الدولة اللبنانيّة غير مضمون؟ وماذا عن استعداد الدولة للمخاطرة بخياراتها الاستثمارية؟ وإن كنّا دولة سيّئة فعلاً، فهل ثمن فقدان الثقة أكبر من مكسب التوقف عن الدفع؟ وهل الثمن في حالتنا فقط فقدان الثقة أمام ما سبقت الإشارة إليه من انكشاف القطاع المصرفيّ على الدين العام اللبنانيّ؟ أم أنّنا سنواجه انهياراً للقطاع الماليّ؟ وهل يوجد أي احتمال اخر، بين إعادة الجدولة والتوقف عن سداد الدين، يمكن ألا يؤدّي إلى انهيار القطاع الماليّ في لبنان؟
الإجابة عن هذه الأسئلة ضروريّة إن كان من أمل لإدارة أزمة الدين العام بشكل يخفّف من الأضرار، والأهم عند الإجابة على الأسئلة التي تتعلق بالأثمان والمكاسب يجب أن يكون واضحاً على من تقع الاثمان ولمن تكون المكاسب؟
المكاسب يجب أن تكون للذين عانوا الأمرّين في العقود الثلاثة الماضية، بينما الأثمان يجب أن يدفعها الذين أثروا على حساب مراكمة هذا الدين العام العظيم.