الواقع الحاليأدّى العجز المتراكم لميزان المدفوعات على مدار الأعوام الماضية إلى تقليص حاد (إن لم يكن استنفاد) لاحتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية. وبموجب تعميم مصرف لبنان رقم 530، الصادر في 30 أيلول 2019، تمّ التخلّي فعلياً، رغم الادِّعاء بالعكس، عن نظام سعر الصرف الثابت المعتمد منذ عام 1997 لإبداله بنظامَي صرف متوازيَيْن. يضمن التعميم توافر العملات الصعبة، بالسعر الرسمي القائم، حصريًا لاستيراد ثلاث سلع استراتيجية: المشتقات النفطية، والقمح، والأدوية. أما لجهة ما تبقّى من الواردات والخدمات، فيتوجَّب شراء العملة في سوق موازية عبر الصرّافين المرخَّص لهم، بأسعار صرفٍ تعكس ظروفَ العرض والطلب. ففي الجوهر، انخفضت احتياطات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي، مع توقّعات متضائلة بتجديدها، ما لم يَعُد يسمح بالحفاظ على نظام الربط الثابت بين الليرة اللبنانية والدولار الأميركي، أو بعبارة أدقّ، بدعم الليرة اللبنانية التي باتت قيمتُها الإسميَّة تفوق قيمتَها الفعليَّة الحقيقيّة.
إن التحليل الاقتصادي الهادف لا ينطوي على ذرف الدموع على جدوى السياسات العامة التي نُفِّذَت عبر السنين. إلّا أنّ مراجعة بعض هذه السياسات تُظهر جلياً أن نظام الربط الثابت قارب نهايةَ مسارِه في العام 2016، حين لجأ المصرف المركزي إلى ما سُمِّيَ بالهندسات المالية التي، رغم كلفتها، لم تُجْد بإعادة تكوين احتياطات النقد الأجنبي على المستوى المطلوب. وكان هدف الهندسات تحفيز البنوك التجارية لتحويل جزءٍ من موجوداتها في المؤسسات المالية الأجنبية، والمقوَّمة بالدولار، لإيداعها في المصرف المركزي مقابل عوائد عالية. وفيما قد تكون هذه الهندسات قد وفَّرت شريان حياة لنظام الربط الثابت لثلاث سنوات إضافية، إلّا أنها زادت من انكشاف البنوك التجارية للمخاطر السيادية (أي الخزينة ومصرف لبنان)، ليصل هذا الانكشاف إلى ثلثي إجمالي محفظة المصارف. في هذا التشابك الثلاثي بين الخزينة والمصارف التجارية ومصرف لبنان، والمحفوف بالمخاطر، غدا المودعون رهائنَ عاجزة وبريئة.
يعود أساسُ المشكلة إلى استرسال الخزينة، على مدار ثلاثة عقود، بالاقتراض من المصارف التجارية لتمويل النفقات الجارية غير المُنتجة لجهاز حكومي يَتَضَخّم من دون هوادة أو رقيب، ولدعم قطاع الكهرباء من دون إعادة تأهيله، إضافة إلى الكسب غير المشروع. ومن البديهي أن يغدو احتمال تسديد هذا الإقراض العقيم ضئيلاً جداً لأنه لم يُنْشئ أصولاً منتجة تُوَلِّد العائدات القادرة على التسديد (*). كذلك هي حال شهادات الإيداع بالعملة الأجنبية التي اقترضَ مصرف لبنان عبرها من المصارف التجارية لتكوين احتياطياتٍ اسْتُنْزِفت في دعم نظام الربط الثابت، والذي غذّى بدوره العجزَ التجاري المتنامي على أكثر من عقدين. ومع اندلاع أزمة السيولة المصرفية الناتجة عن التمادي بهذا الإقراض، أدخَلَت المصارفُ ضوابطَ فعلِيَّة على تحويلات الأموال وسحب الودائع من غير أن يصدُر بصدد ذلك تعميمٌ من مصرف لبنان أو تشريعٌ مُلزِم. ولهذا القرار الدراماتيكي تداعيات على المدى الطويل، لما يُشكّل من تقويضٍ لسمعة القطاع المصرفي اللبناني، ومكانته كملاذٍ آمنٍ للتدفقات المالية الخارجية. أمّا الآن وقد دخلت هذه الضوابط حيِّز التنفيذ، فمن الضروري إعلانها رسمياً وتشريعها قانونياً لعدم ترك القرارات بصددها لاستنسابية إدارات المصارف التي قد تُمَيِّز بين العملاء، خاصةً لصالح كبار المودعين. كما أن رداءة محفظة قروض القطاع الخاص التي تَعدّى فيها مستوى القروض المتعثُّرة 15%، تشكّل عاملاً إضافياً في هشاشة ميزانيات البنوك التجارية.

أدوات المعالجة
من الضروري استدراك الوضع المالي المتأزّم بشكل عاجل. بادئ ذي بدء يجب استعادة التوازنات الأساسية للمالية العامة من خلال كبح نمو الدين وتحقيق استقراره على المدى المتوسط. ذلك يتطلب بذل جهد مالي هائل لخفض النفقات وزيادة الإيرادات لتوليد فوائض أولية كبيرة تعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي في كل من السنوات الخمس المقبلة. مثل هذا الجهد المالي الضخم، إن أمْكَنَ تحقيقه، ستكون له تداعيات اجتماعية شديدة الوطأة في إطار اقتصادٍ «مُدَوْلَر» يُواجه تحدياتٍ جَمَّة، مع احتمال انخفاض سعر العملة الوطنية، ما يُقَلِّص من القدرة الشرائية لمعظم المواطنين الذين دخلهم وادخارهم بالليرة اللبنانية، فيما قد تكون التزاماتهم (من قروض سكنيّة وسيارات وأدوات منزلية) مُقَوّمة بالدولار. وبالتالي، يغدو تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية بشكلٍ جدّي شرطاً أساسياً لمرافقة برنامج التصحيح المالي أمَلاً بالخروج من الأزمة. وخلاصةً، يجب أن يتحرك برنامج التصحيح المطلوب على ثلاثة مسارات متوازية.

إصلاحات ضريبية تقلّص الإنفاق وتعزّز الإيرادات
- يجب السعي إلى إدخال نظام ضريبي أكثر فعالية وعدالة يَضْمَن تدفقاتٍ كافية من الإيرادات. ولكي يكون الجهد الضريبي عادلاً ومقبولاً من المواطنين، يجب أن تُوَزَّع فيه الأعباء على شرائح المجتمع بحيث يتحمّل الأثرياء الحصة الكُبرى للحدّ من وقع التدابير على الطبقات الوسطى والفقيرة. ويبدأ ذلك بتضمين قانون موازنة 2020 «الضريبة التصاعدية على الدخل الموحّد» مع معدّلات ضريبة تتدرّج من 5% إلى 45%، وهي في حدود المعايير المعتمدة في العديد من البلدان. أمّا المداخيل ما دون الحد الأدنى للأجور فتكون معفاة من الجباية. وقد تُفْرَض هذه المعدّلات لفترة انتقالية لعدد من السنوات حتى يتم الوصول إلى أهداف محدّدَة.
- إعادة هيكلة الدين العام ضمن استراتيجيا وعبر أدوات تحافظ على حقوق المودعين.
يجب أن يتحمّل الأثرياء الحصة الكُبرى من الإصلاح الضريبي للحدّ من وقع التدابير على الطبقات الوسطى والفقيرة


- النظر في البيع «الانتهازي»، أي إن كانت ظروف السوق مؤاتية للدولة، لبعض الأصول العامة من غير الكيانات التشغيلية التي تَدُرّ المداخيلَ والعوائدَ للخزينة. في هذا الصدد، يجب اليقين أن بيع أيٍ من ممتلكات الدولة لن يكون لسداد «دين المصارف» حفاظاً على مصالحها - أي مصالح مالِكيها - بل بهدف عدم التفريط بحقوق المودعين وأموالِهم التي اسْتَخدمتها المصارف بطريقة غير مسؤولة، واسْتُنزِفَت في عملية إقراض الدولة منذ عام 1992.
- الضبط الصارم للنفقات العامة لخفضها، مع تمويل جميع الاستثمارات الرأسمالية الجديدة برأس مال خاص، والحل الجذري للمعضلة المستعصية لقطاع الكهرباء الذي حَجَبَ الضوءَ عن المواطن وهَدَرَ المال العام.
- احتواء التهرُّب والتَسَيّب الضريبيَيْن، ومكافحة الممارسات الجمركية غير القانونية من خلال تدابير فورية (الماسّحات الضوئية ووكالات التدقيق الخاصة...)
- الإبرام الفوري لقانون يعالج بطريقة نهائية ملف الاحتلال غير المشروع للممتلكات العامة.

تقوية شبكات الحماية الاجتماعية
- إحداث برامج تستهدف الفقراء والفئات المُهمّشة، تنطوي على تحويلات نقديّة، وقسائم الغذاء وتأمين المأوى والتدفئة والنقل والتغطية الصحية الأساسية
- الامتناع عن تسريح العاملين في القطاع العام، أو خفض الرواتب في المرحلة الحالية، إذ أن انخفاض قيمة العملة سيؤدي إلى تآكل القيمة الحقيقية للرواتب. إلّا أنه من الضروري القضاء على جميع التجاوزات في المعاشات والمخصّصات التراكمية والتعويضات المفرطة في بعض الوظائف والإدارات والمجالس والأجهزة.
- حماية قيمة موجودات صندوق الضمان الاجتماعي من تعويضات نهاية الخدمة، والتغطية الصحية، والتي يتم استثمارها في أدوات الخزينة المُقَوّمَة بالليرة اللبنانية.
- رفع السقف على ضمان الودائع المصرفية المحدَّد حالياً بخمسة ملايين ليرة لبنانية.

حزمة الاجراءات المؤسساتية
ــ حَلّ أو دمج عدد من المؤسسات العامة والمجالس والهيئات البالغ عددها 94 والتي مرَّ عليها الزمن واستنفدت مهمّتَها (كوزارة وصندوق المهجَّرين، ومجلس الجنوب، ...) وإعادة توزيع العاملين فيها على كيانات القطاع العام حيث توجد شواغر.
ملاحظة: البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يخضع لإشراف الكونغرس الأميركي.
ــ تعديل قوانين الهيئات الناظمة (البترول، الاتصالات، الطاقة) لإخضاعها لرقابة مجلس الوزراء وليس لوصاية الوزير المختَصّ.
ــ تعديل قانون النقد والتسليف لإخضاع البنك المركزي لرقابة البرلمان.
ــ إخضاع ديوان المحاسبة لرقابة البرلمان. («مكتب المحاسبة العامة» في الولايات المتحدة يخضع لإشراف الكونغرس الأميركي).
ــ تعديل قانون هيئة الأسواق المالية لحمايته من هيمنة القطاع المصرفي ــ وهو المنافس لأسواق السندات والأسهم - وإخضاعها لإشراف البرلمان. («لجنة الأوراق المالية والبورصات» الأميركية تخضع لإشراف الكونغرس الأميركي).
- التأكيد من خلال الوسائل القانونية على استقلالية «إدارة المناقصات» ودورها الحصري في جميع مناقصات أعمال القطاع العام.
- التأكد من أن جميع المشاريع العامة والخاصة من بنى تحتية، وصناعة، وزراعة، وسياحة، وإسكان... متوافقة مع «الخطة الوطنية لاستعمال الأراضي» الصادرة عن مجلس الوزراء عام 2009.
- التأكد من أن جميع عمليات التوظيف في القطاع العام تتم حصرياً من خلال مجلس الخدمة المدنية، على أن يقدِّم المجلس إلى الإدارة المعنية قائمة مختصرة من ثلاثة مرشحين للاختيار من بينها.

* ملاحظة: هذا الواقع يجب أن يُقَلِّل إلى حدِّ ما من آمال محاربي الفساد الملتزمين بما يخُصّ «استرداد الأموال المنهوبة» على نطاق واسع. فرغم التقارير الموثوقة والموثَّقة حول الصفقات الظليلة التي استفاد منها العديد من أهل الحول والصول، فإن الجزء الأكبر من عجز الموازنة وتراكم الدين العام كان سببه استباحة المال العام في غياب قيود الموازنة على مدار 13عاماً عبر النفقات الجارية المهدورة لحشر الأزلام والمحاسيب في وظائف غير منتجة، ما رفع عديد عاملي القطاع العام إلى 250,000 شخص إضافة إلى 100,000 متقاعد يتقاضون رواتب، ناهيك عن حرق الفيول أويل الباهظ الثمن في محطات غير فعّالة لتوليد الطاقة.