لا شيء خرق أحداث الشارع في اليومين الماضيين، سوى قيام وزراء ونواب التيّار الوطني الحرّ وبعض المحسوبين عليهم في الإدارات العامّة بإعلان توجّههم لرفع السرّيّة المصرفية عن كامل حساباتهم. للوهلة الأولى تعتقد أنه إجراء تقدّمي شفّاف يهدف إلى خلق جوّ من الثقة ما بين جزء من السلطة الحاكمة والشعب. إلّا أن هذه الخطوة هي لزوم ما لا يلزم.
فوفقاً للمادة الخامسة من قانون سرّية المصارف الذي يُعتبر الركيزة الأساسية في العمل المصرفي اللبناني واستقطاب الودائع المصرفية، لا يمكن للعميل رفع السرّية عن كامل حساباته المصرفية بل وجب عليه تحديدها وتحديد الأشخاص المفترض كشفها لهم. فضلاً عن أن القانون يتيح للقضاء اللبناني والهيئات الرقابية رفع السرّية عن سارقي ومختلسي المال العام من دون حاجة لموافقتهم، فيما لو أُعطيت استقلاليتهم عن السلطة السياسية فعلاً، وذلك وفق النصوص التالية:
• الفقرة الثانية من المادة الثالثة عشرة من قانون الإثراء غير المشروع رقم 154 الصادر بتاريخ 27/11/1999، التي تنصّ على رفع السرّية المصرفية عن أي من القائمين بالخدمة العامّة.
• قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318 تاريخ 20/4/2001، وقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم 44 تاريخ 24/11/2015، الذي أناط بهيئة تحقيق خاصة داخل مصرف لبنان رفع السرّية المصرفية أمام السلطة القضائية والهيئة العليا للمصارف، عند ثبوت جرائم سرقة أو اختلاس أموال عامّة أو فساد، بما في ذلك الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع.
إلى ذلك، إن إخفاء الأموال غير المشروعة يتمّ بطرق عدّة، وبالتالي فإن أمر ملاحقتها ليس سهلاً حيث إن إدارات دول كبرى تعجز في بعض الأحيان عن تتبّع الأموال المنهوبة لوجود طرق عدّة لإخفاء هذه الأموال، منها على سبيل المثال لا الحصر:
• إخفاء أموال نقدية ومجوهرات ثمينة وسبائك ذهبية خارج المصارف، وهذا أمر شائع في معظم الدول العربية، وقد ظهرت بشكل جدي إبّان الربيع العربي في دول عدّة، حتى أن معظم الأحزاب اللبنانية تدفع نقداً لمحازبيها وهذا أمر يظهر بشكل جليّ خلال الحملات الانتخابية.
• إخفاء أموال نقدية ومجوهرات ثمينة وسبائك داخل خزائن حديدية تستأجر من المصارف.
• فتح حسابات مصرفية بأسماء أقرباء أو مقرّبين والاستحصال منهم على ضمانات.
إلى حين التخلّص من هذا النظام، تبقى جميع الخطوات المتّخذة من قِبَل السياسيين غير جدّية، ومجرّد فولكلورات شعبوية


• تأسيس شركات أوف شور أو شركات هولدنغ في بعض الدول، ولا سيّما في الجنّات الضريبية مثل باناما وجزر البهاماس والكايمان والجزر البريطانية العذراء.
• تأسيس مؤسّسات أو صناديق ائتمانية خارج لبنان.
• شراء عقارات بأسماء أقارب أو مقرّبين، والاستحصال منهم على ضمانات، ولا سيّما وكالات غير قابلة للعزل بحيث تبقى هذه العقارات خارج الشبهة ولا يمكن ربطها به مع العلم أنه يستطيع التصرّف بها ساعة يشاء.
• المساهمة في شركات قابضة داخل لبنان أو شركات مساهمة تتملك أصولاً كثيرة تحت أسماء مستعارة، ويتمّ توقيع عقد تفرّغ عن الحصص بين المالك الظاهر والمالك الأساسي تسمى ورقة ضدّ.
• تبييض الأموال عبر القمار، وهذا أمر شائع، وهناك أخبار كثيرة عن مسؤولين في نوادي القمار العالمية.
بعد كلّ هذا السرد، يتبيّن أن كشف الذمّة الماليّة لأي مسؤول في الدولة هو أمر شديد الصعوبة، ولا سيّما خلال تولّيه سدّة المسؤولية، فكيف إذاً بكشف ثروات جميع الطبقة الحاكمة المنتشرة في أنحاء العالم. تحقيق هذا الأمر يحتاج إلى سنّ قوانين خاصّة وجديدة، وإلى هيئة تحقيق شفّافة وذي كفاءة، وإلى تعاون دولي. ويمكننا أن نأخذ تجربة كثير من الدول التي تمّت الإطاحة بأنظمتها كتونس ومصر وليبيا ودول أفريقية عدّة، استغرقت وقتاً لاسترجاع قسم من الأموال، وما زال بعضها يتنازع أمام المحاكم في دول عدّة.
إلى حين التخلّص من هذا النظام الفاسد لاسترجاع الأموال المنهوبة، تبقى جميع الخطوات المتّخذة من قِبَل السياسيين غير جدّية وغير صادقة، ومجرّد فلكلورات شعبوية لا أكثر، خصوصاً أن الفعل يقتصر على رفع السرّية عن كامل الحسابات المصرفية داخل لبنان. لكن لإثبات حسن النيّة، يمكن لهولاء السياسيين تكليف وزارة العدل برفع السرّية المصرفية عنهم في الدول الخارجية، وتخويل مكتب استعادة الأصول في سويسرا مثلاً الكشف عن حساباتهم وتجميدها حتى يتم التحقّق من مصادرها.
حالياً، من الواقعي أكثر، أن يضغط الثوّار لإقرار قانون استقلالية السلطة القضائية، وتحرير الهيئات الرقابية من الضغط السياسي الذي من شأنه البدء بإجراءات المساءلة والمحاسبة.

* محامي، لجنة الدفاع عن المتظاهرين