الهدف من هذا المقال هو تقييم ورقة الحريري الاقتصادية والتي تبنّتها الرئاسة وبعض الأحزاب.إن هذه الورقة لا تتضمّن برنامجاً واضحاً يساهم في حلّ المشاكل الاقتصادية التي يواجهها المواطن. إن معظم النقاط المطروحة لا تؤدي إلى نتائج فعالة وبعضها ليس له أيّ ضرورة لعدم جدواها، وقد تفسّر بأنها فقط وسيلة لكسب الوقت.
وبعد قراءة معمّقة لهذه الورقة نستطيع تقديم الملاحظات التالية:
- إن خفض رواتب النواب والوزراء والمدراء يوفر فقط نحو 10 ملايين دولار من موازنة توازي 17 مليار دولار و عجز يوازي 5 مليارات دولار على الأقل.
- إن التأخّر في دفع الالتزامات لا يحسّن الوضع المالي، كما هو الحال في ما يخص التزامات الدولة تجاه الضمان الاجتماعي، إنما يكون أثره مغايراً.
- إن إغلاق صندوقي المهجّرين والجنوب هو من الضروريات لعدم الحاجة إليهما. أما مجلس الإنماء والإعمار فمن الأجدى ضمّه إلى وزارة النقل والأشغال ليصبح من صلب عمل الحكومة (بغضّ النظر عن مصادر التمويل) وليس فقط رئاسة الحكومة، حيث ما زال إلى الآن خارج الموازنة. وهذا بحدّ ذانه يُموه الإنفاق الفعلي ويقلّل من العجز المالي الفعلي أيضاً.
- في ما يخص رفع الضرائب المقترحة على المصارف وشركات التأمين إلى 25%، فهذا مخالف للقواعد الضريبية، حيث يتوجب إخضاع الدخل من جميع المصادر لضريبة موحّدة بغض النظر عن فترة تطبيق هذه الضريبة. هذا مع العلم أن بعض المصارف يحقق أرباحاً مرتفعة، بينما بعضها الآخر يعاني من الركود الاقتصادي السائد، وبالأخص من القروض المتعثّرة وشحّ المصادر لتشغيل أموالها. كما تعاني المصارف من الفائدة المرتفعة التي بدورها توصد أبواب فرص الإقراض أمامها. ومنها من استطاع الاستمرار من خلال دعم البنك المركزي لها.
- أما المناقصات، فمن غير الضروري أن تخضع للموافقة المسبقة من قِبل ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي، إذ أن دورهما الأساسي حالياً هو الرقابة اللاحقة. وعليها أن تخضع للتدقيق الداخلي أولاً.
- وعن دعم الصناعات المحلية ورفع الضريبة على المستوردات، فتُعتبر سياسات حمائية وتتعارض مع الاتفاقات التجارية، كما أن سياسات الحماية والدعم قد فشلتا تاريخياً.
- أما اقتراح مساهمة مصرف لبنان والمصارف بـ3 مليارات دولار لدعم المالية العامة فله العواقب التالية:
• إن هذا الإجراء لا ينتج عنه خفض في عجز المالية العامة إلى 0.6% كما هو مقدّر، وهذا خطأ في التبويب ويعطي صورة مضلّلة عن واقع العجز. إن هذه المساهمة من المصارف تعتبر تمويلاً استثنائياً ولا تخفض من العجز، وإنما تخفض من التمويل اللازم ومن تراكم الدين مقارنة مع العام السابق. لذا فإن العجز الكلي سيبقى في حدود 7000 مليار ليرة. إذ أن الأجور والرواتب، وكذلك خدمة الدين والنفقات الأخرى، ستبلغ على أقل تقدير 25500 مليار ليرة، بينما الإيرادات قد لا تتعدّى 18500 مليار ليرة. فيكون العجز أقرب إلى 10% وليس 0.6% كنسبة إلى الناتج المحلي. وإذا ما أضفنا إنفاق الإنماء والإعمار وكذلك متوجبات الدولة تجاه الضمان، فهذا يضيف إلى الإنفاق نحو 600 مليار ليرة ليتخطّى العجز 10%.
• ومن ناحية أخرى، ووفق وجهة نظر صندوق النقد الدولي، فإن حسم الفائدة المستحقة لمصرف لبنان والبنوك يهدّد ملاءة المصارف والبنك المركزي.
• وبخصوص قانون استعادة الأموال المنهوبة، فهل هذا يعني أن ليس للدولة قوانين تمنع الفساد والسرقة؟ إن إقرار قوانين كهذه لا تفيد وإنما تؤخّر التنفيذ. فلدينا قوانين كافية لمحاربة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة. أمّا البند الأخير الذي يدعو إلى رفع السرية المصرفية عن النواب والوزراء والمسؤولين فهو من أهم الإجراءات المقترحة، ويجب على مجلس النواب إقراره في أسرع وقت في غضون الأيام القليلة المقبلة.
إذاً، فإن أغلب هذه الاقتراحات هي ذات جدوى محدودة وبعضها ذو انعكاسات سلبية. وإن توقّع خفض العجز إلى 0.6% من الناتج المحلي هو افتراض خياليّ وليس له علاقة بالواقع.
من الضرورة وضع برنامج لإعادة المتأخرات لصندوق الضمان، التي تفوق 3000 مليار ليرة


فماذا يتوجّب على الدولة القيام به بأسرع وقت ممكن لتحقيق نتائج مالية فعليّة؟
خفض الإنفاق الجاري، ويتم ذلك من خلال خفض التوظيف التعاقدي، الذي بلغ أعداداً كبيرة في الآونة الأخيرة. كما من الممكن إلغاء ساعات العمل الإضافية المحددة بـ35 ساعة شهرياً لموظفي القطاع العام. ويتوجب النظر في السلسلة ككل، ومراجعة بند تعويضات نهاية الخدمة خاصة التي تبلغ 9% من الأجور والرواتب (ما يقرب من 850 مليار ليرة). فمعاشات التقاعد تكفي بحدّ ذاتها. كما يتوجب في المستقبل القريب إنشاء صندوق خاص مستقلّ للتقاعد والضمان الصحي لموظفي الدولة (في الملاك) بحيث يصبح ذا قدرة تمويل ذاتية.
وفي مجال الطاقة، فالفرصة متاحة لاستجرار الطاقة بمقدار 1000 ميغاواط ساعة من خلال مناقصات لا يشوبها الشك. ومن الممكن تنفيذها خلال بضعة أشهر، ما سيوفر 2500 مليار ليرة سنوياً على ميزانية الدولة، إضافة إلى توفير نحو 1500 مليار ليرة على الأفراد والشركات من خلال الاستغناء عن المولدات الخاصة الصغيرة. وسيتحقق التوازن المالي من خلال رفع تعرفة الكهرباء إلى متوسط قدره 15 سنتاً للكيلو واط/ ساعة. وسيتحقق التوفير المذكور للمواطن على الرغم من هذا التعديل.
وليس هناك ما يدعو إلى الاعتماد على المصارف فقط لتمويل الطاقة ومعالجة النفايات من خلال تقديم إعفاءات ضريبية تتعارض مع هدف زيادة الإيرادات منها. من الأفضل تحقيق هذه المشاريع من خلال مناقصات دولية تستند إلى استثمار الشركات الخاصة الدولية فيها وإبرام عقود شراء معها.
ويتوجّب خفض الدعم للقطاع الخاص بمقدار النصف، إضافة إلى ممارسة التقشف في باقي النفقات الجارية.
ولتحسين أداء القطاع العام فقد تلجأ الدولة إلى الاعتماد على التعاقد مع شركات خاصة متخصّصة من خلال عقود تنافسية (في مؤسسة كهرباء لبنان مثلاً).
وبخصوص الضرائب على الشركات، فمن الأجدى رفعها إلى 20% من 17% حالياً، لكي توازي ضريبة الشريحة الأعلى لضريبة الأجور والرواتب. إن المصارف وشركات التأمين تعاني من الركود الاقتصادي السائد كباقي القطاعات وليس هناك داعٍ لاستفرادها بضرائب مميزة.
ومن الضرورة وضع برنامج صارم لإعادة المتأخرات لصندوق الضمان الاجتماعي، التي أصبحت تفوق 3000 مليار ليرة.
إن هذه الاقتراحات ستوفر ما يقرب من 4000 مليار ليرة من خلال إصلاح القطاع العام وخاصة في مجال الأجور والرواتب وقطاع الكهرباء. وإذا ما عمدت الدولة إلى تحسين الجباية في مرافق عدة، فهذا قد يعطي المزيد من الإيرادات وقد تبلغ 1000 مليار ليرة سنوياً. لذا فمن الممكن خفض العجز بنحو 5000 مليار ليرة، ما يخفض نسبته إلى 4 % من الناتج المحلي. وفي السنوات التي تلي يجب أن تستهدف الحكومة الاستمرار في خفض العجز بـ1000 مليار سنوياً، لكي نحقق توازناً مالياً كاملاً مع حلول 2024. حينئذ، نأمل أن نبدأ بتحصيل مداخيل ولو محدودة من قطاع الغاز والنفط لكي تخصص لبناء وإعمار الدولة. إن خفض العجز المالي بوتيرة سريعة يؤدي إلى خفض الفوائد واستقرار الليرة ويعيد الحياة إلى الاقتصاد.

* رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية