ثلاث رسائل أساسية يوجّهها «صندوق النقد الدولي» في تقييمه لـ«إدارة برنامج الاستثمارات العامّة» الذي قدّمته الحكومة اللبنانية في مؤتمر «سيدر» بغية تنفيذ مشاريع استثمارية بقيمة 23 مليار دولار على مدى عقد مقبل لتعزيز البنية التحتية ودفع النموّ الاقتصادي. الرسالة الأولى: أن المشاريع المقدّمة ضمن البرنامج لم تخضع لأي دراسة مالية، باستثناء بعض المشاريع التي خضعت لدراسة جزئية، وبالتالي لم تدخل كلفتها والنتائج المترتبة عليها في توقّعات المالية العامّة الإجمالية. الرسالة الثانية: لم يتمّ احتساب النفقات الإجمالية للمشاريع (كلفة الاستثمار والصيانة والتشغيل) كمقدّمة لاختيار الصيغة التعاقدية الأنسب لكلّ منها.

مرام علي ــ الأردن

والرسالة الثالثة: لم تحدّد النتائج التي ستترتّب على المشاريع التي ستنفّذ بصيغ بديلة عن الإنفاق العام المباشر، وتحديداً عقود الشراكة مع القطاع الخاص ومشاريع المؤسّسات العامّة.
ما يقوله الصندوق، بطريقة أوضح، هو أن البرنامج المطروح من قبل الحكومة اللبنانية ليس إلّا ديناً جديداً سيولّد نفقات إضافية على الصيانة والتشغيل، وسيستدعي تقديم ضمانات، وبالتالي إذا نفّذ بصيغته الحالية، أي من دون معرفة مدى فعالية هذه المشاريع وتأثيراتها على الإنتاجية، ووفق الأطر القانونية والممارسات المالية المعهودة لإدارة الاستثمارات العامّة، أي من دون تقديم الصورة الكاملة عن النفقات الإجمالية والنتائج المترتبة عليه على المالية العامّة، فهو سيؤدّي الى عكس الأهداف التي وضع على أساسها، بحيث لن يسهم في تحقيق أي نموّ إلّا في المراحل الأولى، وأكثر من ذلك، سيرفع نسبة الدَّيْن العام إلى أكثر من 175% في عام 2023، ولن يسهم في معالجة الاختلالات في الموازين المالية ولا في تحقيق استدامة الدَّيْن.

تقييم الصندوق
يبني الصندوق تقييمه استناداً إلى مجموعة من العوامل الأساسية التي تدخل في دورة إدارة الاستثمارات العامّة الثلاثة الأساسية، وهي:
1) التخطيط لحجم الاستثمارات العامّة على مستوى كلّ إدارات وهيئات ومؤسّسات القطاع العام:

40%

قيمة الأصول الثابتة العامّة من الناتج المحلّي الإجمالي في لبنان، وهي أدنى من المعدّلات في البلدان المشابهة للبنان لناحية مستوى الدخل والإنفاق العام

يرى الصندوق أن التخطيط الاستراتيجي لا يتماشى دائماً مع توافر الموارد، وأن القواعد المالية التي ترعى إدارة الاستثمارات العامة ضعيفة من الناحية المؤسّساتية والفعالية، كون الإطار المالي الذي يوضع على المدى المتوسّط غالباً ما يكون مجرّد توقّع، ولا يوجّه عملية الإنفاق على الاستثمارات العامّة، ما يجعل الاستدانة غير مربوطة بأي سقف، ويؤدّي إلى عدم استدامة الدَّيْن، فضلاً عن أن التخطيط على المستوى الوطني والقطاعي ضعيف من الناحية المؤسّساتية وغالباً ما يكون ذا فعالية متوسّطة، نظراً إلى أن الاستراتيجيات القطاعية (كالخطّة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية) لا تستخدم في توزيع موارد الموازنة، وكذلك لا يتمّ تقديم صورة شاملة للكلفة المقدّرة للمشاريع نتيجة عدم إجراء أي تقييم للمشاريع ومخاطرها (80% من المشاريع المنفّذة في العام 2016 لم تخضع لأي تقييم للمخاطر)، إضافة إلى غياب التنسيق بين مختلف هيئات وإدارات القطاع العام، وغياب آليات مراقبة الإنفاق والمطلوبات الطارئة، وخصوصاً في المشاريع المنفّذة بموجب قروض عبر مجلس الإنماء والإعمار أو بالشراكة مع القطاع الخاص.
2) توزيع موارد الموازنة العامّة بالتناسب بين القطاعات والمشاريع:
تجزئة الاستثمارات العامّة بين مؤسّسات عديدة لتنفيذ مشاريع الحكومة تقوّض وحدة الموازنة لناحية النفقات الرأسمالية، ولا تؤدّى إلى ترقب المخاطر المالية للتعامل معها. فوفقاً لتقييم صندوق النقد الدولي، هناك عيوب كثيرة في إدارة الإنفاق العام من خلال الموازنة، أولاً لأن جزءاً أساسياً من الاستثمارات العامّة يتمّ من خارج الموازنة ومن دون أن يكون خاضعاً لأي رقابة لناحية توزيع الموارد وكيفية إنفاقها ولا حتى الكشف على النفقات الكلّية للمشروع. على سبيل المثال، لا يدرج الإنفاق الاستثماري المموّل من القروض الخارجية والهبات ضمن الموازنة، وهو ما يحول دون وضع توقّعات للأكلاف الحقيقية المترتبة على المالية العامّة. ويضاف إلى ذلك، غياب الموازنات المتعدّدة السنوات، وهو ما يحول أيضاً دون وضع توقّعات على المدى المتوسّط لمجمل الإنفاق الاستثماري على قاعدة الكلفة الكلّية والمخاطر الناجمة عنها، باستثناء تلك الخاصة بقوانين البرامج، فضلاً عن أن المشاريع لا يتمّ اختيارها وفقاً لإنتاجيتها المتوقّعة، بدليل أن مشاريع «برنامج الاستثمارات العامّة» المقترحة لم تخضع كلّها لتقييم كامل أو تقدير كلّي لكلفتها، ولا سيّما تلك المموّلة مباشرة عبر الموازنة.

هناك عيوب كثيرة في إدارة الإنفاق العام، لأن جزءاً أساسياً من الاستثمارات العامّة يتمّ من خارج الموازنة ومن دون أيّ رقابة، ما يحول دون وضع توقّعات لمجمل الإنفاق الاستثماري والمخاطر الناجمة عنه


3) تنفيذ المشاريع لتقديم أصول عامّة منتجة:
لا يوجد في لبنان إطار قانوني حديث لتنظيم المشتريات العمومية والمناقصات، فقانون المحاسبة العمومية ينصّ على اعتماد المناقصات المفتوحة بطريقة منهجية، إلّا أن غالبية الوزارات تقوم بمناقصاتها الخاصّة بمعزل عن هذا الشرط، وخارج إطار رقابة الإدارة المركزية المعنية بالمشتريات العمومية، مع العلم بأن المناقصات المفتوحة لا تسري سوى على المشاريع المموّلة من المانحين. ويضاف إلى ذلك، عدم وجود إدارة موحّدة للاستثمارات العامّة بما يسمح بتنفيذ المشاريع وفقاً للقواعد أو الكشف على المشاريع المنجزة، أو آلية منهجية لمراقبة أداء وتنفيذ المشاريع للحدّ من التأخير أو النفقات الإضافية التي قد تترتّب عليه.

وصفة الصندوق
ولمواجهة هذه التحدّيات خلال إدارة «برنامج الاستثمارات العامّة» المطروح ضمن «سيدر»، كي لا يتحوّل إلى إنفاق غير مجد، يقترح صندوق النقد القيام بسلسلة من الإجراءات، وتشمل:
1) تحديد أهداف الحكومة المالية وتقديرها، وتحديد الفجوة المالية المترتبة من بدء تنفيذ المشاريع الاستثمارية حتى انتهائها، بما فيها الإنفاق الحاصل عبر مجلس الإنماء والإعمار.
2) تحديد آليات التنسيق بين إدارات ومؤسسات القطاع العام، والمتعلّقة بالإعداد للخطّة الاستثمارية والموافقة عليها بما يتماشى مع استراتيجية الاستثمار الوطنية والقطاعية، فضلاً عن إعداد تقارير مالية موحّدة حول المشاريع الاستثمارية والأداء المالي للمؤسّسات العامة.
3) توضيح أدوار ومسؤوليات كل من وزارة المال والوزارات الأخرى ومجلس الإنماء والإعمار في إدارة الاستثمارات العامة، وإدراج كل المشاريع الاستثمارية الخاصة بالحكومة المركزية، بما فيها تلك المنفّذة عبر مجلس الإنماء والإعمار ضمن الموازنة، ونقل الاعتمادات المخصّصة لتنفيذ هذه المشاريع تدريجياً من موازنة الإنماء والإعمار إلى موازنات الوزارات المعنية، وأيضاً تضمين الموازنة كلّ المعلومات المتعلّقة بالتمويل الخارجي للنفقات الاستثمارية.
4) إعداد دليل ومنهجيات لتحضير اقتراحات المشاريع وتخمينها وتقييمها، وتطوير آلية إعداد الموازنة لتتماشى مع متطلبات تقييم المشاريع واختيارها.
5) تضمين كل المعلومات المتعلقة بالإنفاق الرأسمالي للمؤسسات العامة ومشاريع الشراكة مع القطاع الخاص في الموازنة العامة، على أن تتضمّن أيضاً المخاطر المالية الناجمة عن تنفيذ هذه المشاريع.
6) توسيع هامش رقابة ديوان المحاسبة اللاحقة، وتعزيز قدراته الرقابية على المشاريع الرأسمالية، فضلاً عن وضع خطط لتنفيذ المشاريع قبل الموافقة على ميزانياتها، ووضع تقارير لتحليل الكلفة تتضمّن تقديرات للأكلاف الإضافية والتأخير.