غريب أمر السلطة اللبنانية. فمنذ مؤتمر «باريس 1» في عام 2001 وهي تتعهّد السياسات الإصلاحية التي لم يتبَعها سوى المزيد من الديون والمزيد من الكلام عن الإصلاح. الموازنة من أهم الأعمال السياسية التي تقوم بها أي حكومة وأي مجلس نيابي. وبدل ترداد الكلام الفارغ عن الإصلاح والحاجة إلى «رؤية اقتصادية»، فإن مشروع الموازنة بحدّ ذاته وبأرقامه يظهر بوضوح تلك «الرؤية» أو بالأحرى طبيعة السياسة الاقتصادية الفعلية للسلطة وموقفها الفعلي من الإصلاح. هل تعتقدون فعلاً أن هذه السلطة العاجزة أمام مشكلة نفايات، تحوّلت أزمة نفايات مستمرّة منذ سنوات، باستطاعتها إنجاز إصلاحات لدرء انهيار نقدي ومالي تزداد مخاطره يوماً بعد يوم؟ المسألة ليست مسألة قدرة بل إرادة، إذ لكلّ أزمة حلول. ومشروع موازنة عام 2019، كما السياسة النقدية لمصرف لبنان، يوفّران بالأرقام برهاناً قاطعاً عن عدم اهتمام السلطة اللبنانية بأي إصلاح، مالياً كان أو نقدياً.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

السلطة غير جدّية مالياً
على الرغم من كلّ الكلام عن الإصلاحات في مشروع موازنة 2019، فإنه يمكن تلخيصها بارتفاع في نسب الضرائب والرسوم، وازدياد في إجمالي النفقات، وليس بالتقشّف، على الرغم من التخفيض في كلفة الفوائد بأكثر من 700 مليون دولار من خلال تمويل مصرفي مدعوم بنسبة فائدة 1% فقط. هذا جوهر مشروع الموازنة الموضوعي مهما كانت التفاصيل. والمشكلة الإصلاحية هنا تكمن في أن هذه السلطة لا تعالج أياً من المجالات التي تشكّل مصادر لصفقاتها ومحاصصاتها السياسية. لو تمّ ذلك، لكان بإمكان السلطة توفير إيرادات إضافية مقدارها عدّة مليارات من الدولارات، من دون أي زيادة في الضرائب أو الرسوم. وهذه المجالات عديدة وتقريباً في كلّ ثنايا الدولة، تستدعي بالأخص ضبط التهريب والتهرّب في: الجمارك، الضريبة على القيمة المضافة، النفط والكهرباء، الاتصالات، مرفأ بيروت، المقالع والكسّارات، الأملاك البحرية والنهرية والإيجارات ...
أمّا العجز المُقدّر رسمياً في مشروع موازنة عام 2019 ﺑـ7.6% من الناتج المحلّي (أو نحو 4.5 مليارات دولار) فلا علاقة له بالواقع. فهو ناقص، حتّى مع اعتماد كلّ الإيرادات والنفقات المُدرجة في مشروع الموازنة كما هي. والسبب هو عدم إدراج نفقات يجري صرفها كلّ سنة، إنّما لا تُلحظ عادة في مشروع الموازنات. فإذا اعتمدنا في تقديراتنا لهذه النفقات المبالغ نفسها المُسجّلة في عام 2018، نجد أنه يجب إضافة المبالغ التالية في مشروع الموازنة: صافي عمليات الخزينة (عجز 600 مليون دولار)، ونفقات استثمارية بتمويل خارجي (200 مليون)، وتحويلات إضافية إلى مؤسّسة كهرباء لبنان (100 مليون على الأقل) لتَصِل الإضافات إلى 900 مليون دولار، والعجز في مشروع الموازنة إلى نحو 5.4 مليارات دولار أي 9.1% من الناتج المحلّي.
العجز الفعلي المتوقّع في 2019 سيكون 5.8 مليارات دولار تقريباً أو 9.7% من الناتج المحلّي


أمّا العجز المتوقّع فعلياً في عام 2019 فهو أمر آخر، لأن تطبيق الموازنة كما هي مُقترحة سوف يسري في أحسن الأحوال على النصف الثاني من السنة فقط، فيما يتوقّع أن ينتج النصف الأوّل عجزاً قريباً من نصف العجز المُحقّق في عام 2018 (نحو 6.2 مليارات دولار). كلّ هذا يعني أن العجز الفعلي المتوقّع في 2019 سيكون 5.8 مليارات دولار تقريباً، أو نسبة 9.7% من الناتج المحلّي. هذا مع العلم بأن وزارة المال ضخّمت تقديراتها لنسب النموّ وحجم الناتج المحلّي للعامين 2018 و2019 ليَصِل تقديرها للناتج إلى أقل بقليل من 60 مليار دولار لعام 2019. إلّا أن تقديرات أكثر واقعية تقول بنحو 58 مليار دولار نظراً إلى أن إدارة الإحصاء المركزي وصلت إلى نسبة نموّ حقيقي مقدارها 0.6% فقط في عام 2017، ونظراً إلى عدم تحسّن، إن لم نَقل تردّي النشاط الاقتصادي في ما بعد، ما يعني أن تقديراً أكثر واقعية للعجز المالي لعام 2019 هو 10% من الناتج.

سياسة مصرف لبنان تحمل مخاطر نقدية ومصرفية كبيرة
يقول المفكّر نعوم تشومسكي: «إمّا تعيد سرد المقولات التي يردِّدها الجميع، أو تقول شيئاً حقيقياً فيبدو كأنه شيء آتٍ من المريخ». هذا قول ينطبق على السياسة النقدية لمصرف لبنان. فنحن لا نزال نرى أن ما يُسمّى «هندسات مالية» يقوم بها مصرف لبنان تحمل مخاطر تتراكم منذ سنوات على الوضع النقدي والمالي، وهذه باعتقادنا أكبر من مخاطر العجز في الموازنات والدَّيْن الحكومي المتنامي.
إن العنصر الأساس في تلك «الهندسات المالية» يكمن في اقتراض مصرف لبنان للدولار من المصارف بشكل متزايد منذ سنوات وبنسب فوائد تُعتبر مرتفعة بأي معيار. وعلى الرغم من أن مصرف لبنان لا ينشر أية أرقام عن حجم وكلفة عمليّاته بالدولار مع المصارف، إلّا أن معلومات عديدة في القطاع المصرفي ومؤشّرات رسمية تعطي تقديرات معقولة جدّاً. فمصرف لبنان يقترض الدولار من المصارف بمعدّل كلفة 7% سنوياً. ويُضاف إليها، بمثابة «إكرامية» للمصارف، قروض موازية لها بالليرة بفائدة 2% سنوياً. في حين تعيد المصارف فوراً إيداع تلك المبالغ بالليرة لدى مصرف لبنان بمعدّل فائدة يتعدّى 10% سنوياً. أي أن المردود الفعلي لودائع المصارف بالدولار لدى مصرف لبنان يناهز 15% سنوياً!
لا عجب أن ترتفع نسب الفائدة بشكل قوي في الأسواق المالية في لبنان، في حين أنها تهبط باستمرار في الأسواق العالمية. فمردّ هذا الارتفاع يعود أساساً وأوّلًا إلى سياسة مصرف لبنان النقدية التي أوردنا أعلاه. وهذه سياسة مُكلفة جدّاً، لمصرف لبنان ولكلّ الاقتصاد اللبناني. فوفق تقديراتنا، إن مجمل ديون مصرف لبنان بالدولار لمصلحة المصارف المحلّية تتعدّى 80 مليار دولار، وكلفتها الصافية بالدولار هي 4.5 مليارات دولار سنوياً تقريباً. أمّا الكلفة على الوضع المصرفي والاقتصاد ككلّ فهي أهمّ بكثير.
فمن أهمّ الأهداف التي أعلنها مصرف لبنان «للهندسات المالية» تعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية وتحسين ميزان المدفوعات ودعم النشاط الاقتصادي. أمّا في الواقع، فلم يتحقّق أي من هذه الأهداف، إذ إن احتياطي مصرف لبنان في تراجع مستمرّ على الرغم من ازدياد اقتراضه بالدولار، وعجز ميزان المدفوعات في ارتفاع مستمرّ. أمّا في المجال المصرفي، فمجمل قروض المصارف للقطاع الخاص، أي للنشاط الاقتصادي عموماً في لبنان، انخفض بأكثر مما يوازي 10 مليارات دولار منذ آخر عام 2017 لغاية آخر نيسان 2019، والسبب يعود إلى السياسة النقدية التي دفعت المصارف إلى الانسحاب تدريجاً من تمويل النشاط الاقتصادي المحلّي وإلى حصر علاقاتها المُربحة جدّاً بمصرف لبنان. وبالفعل، فقد أصبح مجمل قروض المصارف لمصرف لبنان يوازي 55% من مجمل ميزانياتها، ونرى أن هذا الارتباط القوي والاستثنائي لوضع المصارف بمصرف لبنان يشكّل التطوّر الأكثر مدعاة للقلق.
إنه لأمر مستغرب، ومحزن، فعلاً، أنه إزاء هذا الوضع النقدي والمصرفي الخطير لا نجد أحداً من السلطات التنفيذية، أو التشريعية، أو الرقابية أو بالأخصّ في جلّ وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة، يجرؤ على طرح حتى تساؤلٍ حول هذا الواقع الخطير المُتعلّق بمصرف لبنان والمصارف. أو ربّما أن الأمر ليس مستغرباً.
المسألة المُلِحّة حالياً ليست في تأمين الحصول على أموال قروض «سيدر»، فهذه مسألة ثانوية بالنسبة إلى المسألة الأساس التي تقتضي الحدّ من مخاطر الانهيار النقدي من خلال إقناع الأسواق المالية في الداخل والخارج بأن السلطات اللبنانية جادّة فعلاً في ضبط سياستها المالية وسياستها النقدية أيضاً. إلّا أن كلّ المؤشّرات لغاية الآن تدلّ بوضوح على عدم جدّية السلطات اللبنانية في أي مجال إصلاحي.

اقتصادي، خبير سابق في صندوق النقد الدولي