يُعتبر نظام التقاعد في لبنان سخيّاً لشريحة من المستفيدين منه، أي موظّفو القطاع العام، وهؤلاء يشكّلون 20% فقط من القوى العاملة في لبنان، ومُجحفاً للقسم الأكبر، أي 80% من القوى العاملة في القطاع الخاص المنظّم وغير المنظّم وبعض المهن الحرّة، ناهيك عن العاطلين عن العمل. للتوضيح، يشمل نظام التقاعد القطاع الخاص المنظّم فقط، أي تلك الشريحة من العاملين المنتسبين إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.ففي القطاع الخاص المنظّم، يحصل العاملون عند بلوغهم سن التقاعد (64 عاماً) على «تعويض نهاية الخدمة»، وهو عبارة عن مبلغ مقطوع يوازي راتب شهر واحد عن كلّ سنة خدمة، ما يمثّل للأشخاص الذين يتقاعدون حالياً بعدما عملوا سنوات طوال، ما بين 15 ألفاً و25 ألف دولار أميركي. وحتّى الماضي القريب، كان يخسر المتقاعدون، لدى تقاضي التعويض، التغطية الصحية حيث تتوقّف مساهمة أرباب العمل في نظام الضمان الصحّي (غير أنه أُدخِل مؤخراً تعديل يسمح للمتقاعدين بمتابعة مساهمتهم في الضمان الصحّي). أمّا خارج القطاع المنظّم، الذي يمثل قرابة نصف عاملي القطاع الخاص، فلا تعويض نهاية خدمة ولا حماية صحّية.
يختلف نظام القطاع الخاص هذا جذرياً عن نظامِ التقاعد في القطاع العام، والذي قد ينفرد لبنان في اعتماده، ذلك أن في القطاع العام:
أ) يصل «معدّل التبديل» (أي قيمة معاش التقاعد نسبة إلى الراتب الأخير) إلى 85%، وحيث أن المتقاعدين يتوقّفون عن المساهمة بنسبة 6% من رواتبهم لتمويل منظومة التقاعد، وعلماً أن معاش التقاعد معفى من ضريبة الدخل، لذلك يرتفع معدل التبديل الفعلي إلى نحو 100%، ما يعني أن صافي الدخل لا يتغيّر بشكل ملموس عند التقاعد، وهذا يتمايز بشكل واضح عن المعايير المتبعة دولياً.
ب) تعدّل رواتب المتقاعدين بنسبة 80% في كل زيادة رواتب تُعطى لموظّفي الخدمة الفعلية. وهذه خصوصية فريدة في لبنان لا تتّبع في الدول الأخرى حيث يتمّ (وليس في كلّ الأنظمة) تعديل قيمة الراتب التقاعدي بمؤشر ارتفاع كلفة المعيشة فقط، للحفاظ على القدرة الشرائية للمتقاعدين.
ج) يستمرّ ورثة المتقاعدين من أزواج وزوجات بالحصول على 100% من راتب المتقاعد بعد وفاته. كما أن بنات المتقاعد «غير المُعالات» يتابعن الحصول مدى الحياة على حصّتهن من تقاعد أي من والدَيْهن. وبالتالي، فإن منظومة تعويض نهاية الخدمة لموظّفي القطاع العام تتعدّى اليوم 100 ألف متقاعد، بما فيهم قرابة 14 ألف من الأرامل يتقاضون تقاعد أزواجهن، و10 آلاف من الأناث اللواتي لهن الحق بحصّة من تقاعد والدَيْهن.
إن احتساباً أكتوارياً يرتكز إلى مؤشّرات متوسّط طول الأعمار المتوقّع للرجال والنساء، ومتوسّط فرق الأعمار بين الزوج والزوجة في الشرق الأوسط، وحقوق البنات الإناث من تعويضات أهاليهن، يُظهر أن الفترة الفعلية لتقاضي رواتب التقاعد في القطاع العام قد تستمرّ نحو 30 سنة بعد نهاية الخدمة. والخلاصة أن المدة الإجمالية لنفقات الخزينة من رواتب ومعاشات تقاعد قد تناهز السبعين عاماً لمن عمل 40 سنة في القطاع العام.
الجدير بالذكر أن الموظّفين المدنيّين يشكّلون أقل من 30% من متقاعدي القطاع العام (16% معلّمون، و12% إداريون وقضاة ونوّاب... إلخ)، فيما يشكّل متقاعدو الأسلاك العسكرية أكثر من 70% من المجموع، مع ما يترتّب عن ذلك من نفقات خزينة إضافية نتيجة حقّ العسكريين بتعويضات نهاية الخدمة (تدابير رقم 1، 2 أو 3)، علاوة عن معاشهم التقاعدي الشهري.
20% فقط من اليد العاملة في لبنان تستفيد من رواتب تقاعد


وتعني هذه الخصائص مجتمعة أن في ظلّ نظام التقاعد الحالي وطريقة تمويله، لا يمكن تحقيق وفر يُذكر في كلفة القطاع العام نتيجة تقاعد موظّفيه، كما أنه ليس من السهل تحديثه وترشيقه عبر تقديم حوافز للتقاعد المبكر. ذلك لأن معاشات المتقاعدين، أسوة برواتب الموظّفين، تبقى نفقات مموّلة من الخزينة وليس من عائدات استثمار الاقتطاعات التقاعدية (6% من الرواتب) ضمن صندوق مستقّل منفصل عن الخزينة. بل على عكس ذلك في ظلّ التوظيف الزبائني المتّبع، يضاعف شغور أي منصب العبء على الخزينة عبر الاستبدال الفوري للمتقاعد بموظّف جديد.
إن القياس المعياري لكلفة نظام التقاعد في أي اقتصاد يتمثّل بنسبة «صافي القيمة الحالية» لكتلة معاشات التقاعد إلى «الناتج المحلّي الإجمالي». ويحتسب صافي القيمة الحالية عبر جمع العاملين التاليين على أساس الفرضيات التالية:
أ) تدفع فوراً كل المستحقّات المستقبلية لجميع المتقاعدين على ما تبقى من متوسّط العمر المتوقّع (نحو 82 عاماً).
ب) يسترجع الموظّفون الحاليون كامل مساهماتهم لنظام التقاعد مع ما تراكم من عوائد عليها.
ففي لبنان، حيث 20% فقط من اليد العاملة تستفيد من رواتب تقاعد، تشكّل نسبة صافي القيمة الحالية لكتلة التقاعد نحو 45% من الناتج المحلّي الإجمالي. وبالتالي، فإن توسيع نظام التقاعد ليشمل 90% من القوى العاملة، كما في الأنظمة الاجتماعية المتطوّرة، سيؤدّي، في ظلّ الهيكلية الحالية، إلى ارتفاع نسبة كتلة التقاعد هذه إلى 200% من الناتج المحلّي. ووفقاً للاحتساب الماكرو-اقتصادي المصطلح عليه، تعتبر التزامات الدولة هذه تجاه المتقاعدين جزءاً من الدَّيْن العام.
في ظلّ الشرخ الواسع بين منظومتي تقاعد القطاع العام والخاص، وتفاوت حقوق اللبنانيين بالحماية الاجتماعية وفق فئاتهم المهنية، يجب العمل جدّياً على إدخال نظام بديل لتعويض نهاية الخدمة في القطاع الخاص، قائم على تأمين دفعات شهرية منتظمة للمتقاعدين. وسيكون لهذا الإصلاح أثر ملموس على أمن العمّال الاجتماعي حيث يوفّر لهم دخلاً مستقرّاً يمكن التنبؤ به. وفي هذا الصدد هناك مشروع قانون (معطّل ومجمّد) في مجلس النواب، جرى ضمنه تقييم الخطّة التقاعدية المطروحة لتأمين استدامتها وتحديد معالمها من حيث معدّلات التبديل ومساهمات العمّال وأرباب العمل. ويجب أن يحلّ النظام الجديد في المدى القريب مكان تعويض نهاية الخدمة المجحف، بينما يفترض على المدى الأبعد، أن يكون نظاما التقاعد في القطاعين العام والخاص أكثر انسجاماً وإنصافاً ومساواة في حقوق المستفيدين من حيث المساهمات والتعويضات.
ملاحظة: لتبيان عمق الهوّة بين القطاعين العام والخاص تكفي الإشارة إلى أن معاشات وتعويضات التقاعد السنوية في القطاع العام تقدّر حالياً بنحو 2.2 مليار دولار، أي نحو 20 ألف دولار كمعدّل للفرد، وهو مبلغ يقارب ما يتقاضاه بشكل «تعويض نهاية الخدمة» في القطاع الخاص من يتوقّف عن العمل في سن الرابعة والستين، تعويض قد يكون دخله الوحيد لما تبقّى له من خريف الحياة.

* اقتصادي ومهندس، مستشار سابق في البنك الدولي