لا شكّ أن عجز المالية العامّة وارتفاع المديونية هما من المشكلات الرئيسة التي يعاني منها لبنان، إلّا أن الأزمة الراهنة التي أجبرت القوى السياسية على التحرّك الآن وطرح برامجها للتقشّف، تتمثّل بعجز ميزان المدفوعات، أو بمعنى أكثر وضوحاً، تتمثّل الأزمة بـ«نقص الدولارات التي يحتاجها لبنان لتسديد المطلوبات المُترتبة عليه للخارج، ولا سيّما دفع فاتورة استيراد السلع التي تُستهلك محلّياً بما فيها المواد الغذائية والأدوية، وكذلك تسديد فواتير خدمات الاتصالات والإنترنت والمولّدات الخاصة التي تصدر بالدولار»، وفق شروحات شربل نحاس، الاقتصادي ووزير الاتصالات والعمل في حكومتين سابقتين. وفقاً لهذه الشروحات، يؤدّي «نقص الدولارات إلى رفع كلفة تأمينها، إمّا من خلال رفع معدّل الفائدة، وأمّا من خلال ما نشهده مؤخّراً من عمليات بيع للدولار ضمن هوامش أعلى من سعر التثبيت، وصلت إلى 1530 ليرة مقابل الدولار الواحد. وهو ما سيوثّر حكماً على كلّ الذين يحصّلون دخلهم بالليرة اللبنانية، وسيضطرون لإنفاق مدّخراتهم للتمكّن من تمويل استهلاكهم، أو التخلّي عن جزء منه، وبالتالي سيتراجع مستوى معيشتهم، وسيُدفعون إلى الهجرة بحثاً عن تحسين ظروف عيشهم».عملياً، يُعبّر ميزان المدفوعات عن صافي الأموال التي تدخل إلى لبنان وتخرج منه، مهما كان نوع العملة أو النشاط أو الصفة، وبالتالي إذا سجّل عجزاً، فهذا معناه أن كمّية الأموال الخارجة أكبر من الداخلة والعكس صحيح. ففي عام 2018، سجّل ميزان المدفوعات عجزاً قياسياً هو الأعلى منذ الاستقلال، بلغت قيمته 6.04 مليار دولار، أي أكثر بنحو ثلاث مرّات من العجز المُسجّل عام 2017. وفي المقابل، لم تنمُ ودائع غير المقيمين خلال الفترة نفسها، سوى بقيمة 3.9 مليار دولار، أي أقل بنحو مرّة ونصف المرّة من العجز المُسجّل في ميزان المدفوعات. ينطوي هذا العجز المتواصل منذ عام 2011 على خطورة كبيرة بإجماع الاقتصاديين والمصرفيين، إذ يؤدّي إلى استنزاف احتياطات العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان، وبالتالي يزيد الضغوط على سعر صرف الليرة ويهدّد بانخفاض قيمتها، وهذا ما يحيي المخاوف الكامنة في ذاكرة الجميع من تكرار مآساة انهيار الليرة وانفلات «غول» التضخّم بين منتصف ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات.
في هذا السياق، تجري مناقشة مشروع موازنة 2019 تحت ضغط العجز المتنامي في ميزان المدفوعات، إلّا أنها تذهب للتعامل مع العوارض بدلاً من الأسباب، وتطرح التقشّف في الإنفاق بوصفه الوصفة الوحيدة لخفض العجز في المالية العامّة، وتقليص القدرة الشرائية لفئات الدخل المتوسّط للحدّ من تنامي الاستهلاك والاستيراد. ويجري تقديم كلّ ذلك على أنه من شروط «سيدر» لفكّ أقفال التمويل الموعود من الخارج، وبالتالي ضخّ المزيد من الدولارات المطلوبة لاستمرار النموذج الاقتصادي القائم، عبر الحصول على المزيد من القروض الخارجية وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عقود الشراكة مع القطاع الخاص
المقاربتان الشائعتان: هل الأزمة في القطاع العام أم في القطاع الخاص؟

هناك مقاربتان شائعتان لحلّ أزمة ميزان المدفوعات، وفق ما يشرح أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية ألبر داغر:
◄ المقاربة الأولى، التي يتبنّاها صندوق النقد الدولي منذ الثمانينيات، ترى أن عجز ميزان المدفوعات ناجم عن الإنفاق العام وتخطّيه لمجمل الإيرادات التي تحصّلها الحكومة، ما يرتّب عجزاً في المالية العامّة مصدره تنامي الإنفاق على الأجور والمشتريات والعقود والاستثمارات العامّة، فيتمّ تمويل هذا العجز عبر طبع المزيد من العملة، وبالتالي زيادة الطلب الاستهلاكي. هذا الطلب يُلبّى عادة من الإنتاج المحلّي ومن الاستيراد، فإذا تخطّت قيمة الواردات قيمة الصادرات، سيظهر العجز التجاري، وإذا كانت التدفّقات المالية، مثل الاستثمارات الأجنبية أو التحويلات، غير كافية لتغطية هذا العجز في ميزان التجارة الخارجية، سيظهر العجز في ميزان المدفوعات، ويبدأ النزف في احتياطات العملات الأجنبية... لذلك يطرح أصحاب هذه المقاربة تخفيض العجز في الموازنة كشرط لتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، عبر تقليص حاجة الدولة إلى تمويل بالعملات الأجنبية، وتقليص مساهمتها في زيادة عرض النقود ودعم الطلب الاستهلاكي لتخفيض فاتورة الاستيراد.
◄ المقاربة الثانية، وفق داغر، لا ترى في عجز المالية العامّة أمراً سيئاً بالمطلق، بل شرطاً لتحريك عجلة الإنتاج والعمل والنشاط الاقتصادي من خلال الإنفاق العام، أي عرض المزيد من النقود لزيادة الطلب، وبالتالي الاستهلاك والاستثمار. ووفقاً لهذه المقاربة يُفترض توجيه الإنفاق العام نحو الإنتاج المحلّي لتلبية الاستهلاك الداخلي، ونحو القطاعات المُنتجة للسلع والخدمات القابلة للتصدير لتفادي العجز في الميزان التجاري أو التقليل منه، ونحو تعزيز البنية التحتية لجذب الاستثمارات الأجنبية والسيّاح، وهو ما يضمن فائضاً في ميزان المدفوعات، أي تأمين حاجة الاقتصاد إلى العملات الأجنبية.

6.04 مليار دولار

هو العجز المسجّل في ميزان المدفوعات خلال 2018 وهو أكثر ثلاث مرّات من العجز في 2017

ويقول داغر في هذا الإطار، إن «دور الموازنة ليس محصوراً فقط في الإنفاق وجباية الإيرادات، ولا يجدر أن يتحوّل الهدف منها إلى هدف محاسبي مجرّد، إذ لا يوجد ما يمنع من تضمين الموازنة إجراءات ضريبية واستحداث نفقات فيها، تساهم في الحدّ من عجز ميزان المدفوعات، بوصفه المشكلة الداهمة راهناً. ولذلك يفترض في الموازنة أن تحدّد قبل أي شيء آخر مصدر هذه المشكلة وتقترح طريقة للتعامل معها، تقوم على تقدير حصّة كلّ من الدولة والقطاع الخاص في زيادة الاستيراد، واتخاذ إجراءات هادفة ومناسبة لزيادة الإنتاج وتخفيض العجز التجاري».
في الواقع، تبيّن الحسابات القومية لعام 2017، والصادرة مؤخّراً عن إدارة الإحصاء المركزي، أن الإنفاق الاستهلاكي (العام والخاص) يبلغ 105% من مجمل الناتج المحلّي. وتتشكّل النسبة الأكبر منه (91.9%) من استهلاك القطاع الخاص (أي الإنفاق النهائي للأسر)، في مقابل 13.1% للاستهلاك الحكومي. إلى ذلك، يبلغ عجز الحساب الجاري (ميزان تعاملات المقيمين مع غير المقيمين) أكثر من ربع مجمل الناتج المحلّي، ويعدّ استيراد السلع والخدمات المصدر الرئيس لهذا العجز إزاء الخارج والباب الأوّل لنزف العملات الأجنبية، وهو يشكّل 48.6% من الناتج المحلّي وفقاً للإحصاء المركزي، يليه مدفوعات الفائدة على القروض والودائع لغير المقيمين، وتحويلات العمّال الأجانب، وإنفاق اللبنانيين على السياحة في الخارج... في المقابل، لا تشكّل صادرات السلع والخدمات سوى 23.9% من الناتج المحلّي، وتعدّ مصدر التمويل الأوّل للعجز في الحساب الخارجي، تليها تحويلات اللبنانيين المهاجرين، وودائع غير المقيمين والقروض الخارجية.

أي إجراءات ممكنة: تخفيض العجز المالي أم زيادة الإنتاج وتخفيض الاستيراد؟


تخفيض أسعار الفائدة وفرض رسم جمركي مؤقّت ولجم التهريب والتهرّب الضريبي
منصور بطيش


يقول وزير الاقتصاد والتجارة منصور بطيش إن «على الموازنة أن تلحظ سلسلة إجراءات لخفض العجز في ميزان المدفوعات والحدّ من خروج العملات الأجنبية، عبر توزيع الأعباء والأكلاف بشكل هادف وعدم حصر الإجراءات برواتب العاملين والمصارف فقط. وذلك من خلال:
1- فرض رسم مؤقّت بنسبة 3% على كلّ المستوردات، باستثناء المواد الأساسية والأولية، لخفض عجز الميزان التجاري بنحو 500 مليون دولار، على أن يُحوّل نصف هذه القيمة إلى الخزينة لزيادة الإيرادات، وتخصيص النصف الثاني لدعم الإنتاج المحلّي وتمكينه من منافسة السلع المستوردة عند إزالة الرسم.
2- إعادة النظر في الدعم غير المجدي، وتوجيه القروض الاستثمارية المدعومة نحو القطاعات المُنتجة، ومراقبة كيفية صرفها والجهات المستفيدة منها عكس ما هو الواقع اليوم.
3- خفض أسعار الفائدة التي ترفع كلفة الاستثمار من جهة، وتساهم في عجز ميزان المدفوعات من جهة أخرى، وذلك عبر نزف العملات الأجنبية من خلال الفائدة التي تُدفع على ودائع غير المقيمن (35 مليار دولار)، وعلى القروض من المؤسّسات غير المقيمة (7 مليارات دولار) ويجري تحويلها إلى الخارج، إذ يصل مجموع هذه الفوائد إلى أكثر من 1.5 مليار دولار.
4- لجم التهرّب الضريبي المُقدّر بنحو 1.7 مليار دولار من خلال إلغاء الإعفاءات والتخفيضات للمتخلّفين عن دفع الضريبة، واعتماد الضرائب التصاعدية على الإرث والربح العقاري، وتحسين جباية ضريبة الدخل على الأرباح، وتخفيض الحدّ الأدنى للخضوع لضريبة القيمة المُضافة على الشركات من 100 مليون إلى 50 مليون ليرة».

إعادة جدولة الديون ورفع الضريبة على الفوائد ودعم الاستثمارات المُنتجة
جاد شعبان


بدوره، يشير أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت جاد شعبان إلى أن «الموازنة يجب أن تتضمّن خططاً تنهض بالاقتصاد لتخفيض عجز ميزان المدفوعات ومعالجة مصادره، حتى لو بقي هناك عجز مالي، ولذلك يجب توجيه الإنفاق إلى القطاعات الإنتاجية والخدمات الأساسية من دون المسّ بالأجور والتقديمات، وذلك من خلال:
1- تخفيض كلفة خدمة الدَّيْن عبر إعادة جدولة الديون ذات الفوائد المرتفعة بفائدة 1%، أو صفر بالمئة لمدّة معيّنة أسوة بما حصل في أعقاب مؤتمر «باريس 2»، ما يخفّض كلفة الاستدانة عموماً ويحفّز الاستثمار.
2- رفع الضريبة على أرباح الفوائد إلى 10% أو أكثر، لتقليص قيمة الفوائد التي تُدفع للخارج وتؤدّي إلى زيادة النزف في العملات الأجنبية. وتبيّن دراسة أجرتها الجامعة الأميركية أن زيادة الضريبة إلى 10% تؤدّي إلى خروج 0.1% من الودائع فقط، كون معظم الودائع هي هيكلية ولم تخرج من النظام المصرفي المحلّي على الرغم من كلّ الخضّات المالية والأمنية التي مرّت على لبنان، نظراً إلى معدّلات الفائدة الممنوحة في القطاع المصرفي المحلي والتي تتخطّى المعدّلات في أوروبا حيث لا تتجاوز نسبة 0.5% أو 1%.
3- دعم الاستثمارات في الصناعات التحويلية والزراعة والاقتصاد الرقمي والبيئة والطاقة المستدامة عبر إعطائها تحفيزات ضريبية وتخفيضات في الرسوم وإقرار التغطية الصحّية الشاملة، وهو ما يخفّض تكاليف الإنتاج ويزيد التنافسية والقدرة على التصدير».

إنشاء صندوق للتقاعد وإعادة هيكلة القطاع العام وتقليص العمالة الأجنبية
منير راشد


في المقابل، يقول الخبير السابق في صندوق النقد الدولي، والأستاذ في الجامعة اللبنانية الأميركية، منير راشد إن «عجز المالية العامّة يؤدّي حكماً إلى ترتيب عجز في الحساب الجاري لميزان المدفوعات. لذلك على الموازنة أن تخفّض عجز المالية كمدخل لمعالجة أزمة ميزان المدفوعات، من خلال:
1- إنشاء صندوق التقاعد لتحوَّل إليه الاقتطاعات الشهرية من رواتب موظّفي القطاع العام والأسلاك العسكرية، واستثمارها بشكل مهني لتمويل كلفة معاشات التقاعد، وذلك بدلاً من تحويل هذه الاقتطاعات كإيرادات إلى الخزينة، كما يجري راهناً، وإنفاقها في غير وجهتها الفعلية، وترتيب إنفاق كبير لتغطية معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة وتبلغ 1.8 مليار دولار حالياً.
2- ترشيد النفقات والإيرادات من خلال إعادة هيكلة القطاع العام وتنظيم ساعات العمل الإضافية وتقليل النفقات غير الضرورية وزيادة التحصيل الضريبي.
3- استهداف مصادر نزف العملات الأجنبية ومصادر استقطابها، كتشديد شروط التعاقد مع عمّال أجانب لصالح استقطاب عمّال لبنانيين، خصوصاً أن الثقافة تتغيّر ونجد اليوم لبنانيين يعملون في نشاطات لم يكونوا يمارسونها سابقاً، وهو ما يخفّف من حجم الأموال التي تخرج من خلال تحويلات العمّال الأجانب. فضلاً عن استهداف الكهرباء والاعتماد على مصادر أرخص من المحروقات لخفض العجز التجاري، وتحسين البنية التحتية بما يساعد في تطوير الاقتصاد وبيئة الاستثمار والخدمات الاستشارية والهندسية التي يمكن للبنان أن يصدّرها إلى الخارج، وكذلك تشجيع السياحة».