كشف اجتماع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن (اجتماعات الربيع الأخيرة)، مرّة أخرى، أن اقتصاد العالم في تراجع، وأن احتمالات وقوعه في الركود في ازدياد. وقد قلّص اقتصاديو صندوق النقد الدولي توقّعاتهم للنموّ العالمي إلى أدنى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية لعام 2009، وسط توقّعات أكثر قتامة في معظم الاقتصادات المتقدّمة، وإشارات إلى أن رفع التعريفات الجمركية يثقل التجارة، أو كما يصف صندوق النقد الدولي الوضع فهو في «تباطؤ في النموّ وانتعاش محفوف بالمخاطر».يتوقّع صندوق النقد الدولي أن يسجّل الاقتصاد العالمي نموّاً بنسبة 3.3%، في تراجع عن توقّعاته السابقة في كانون الثاني/ يناير بأن يبلغ النمو 3.5%. وهذه المرّة الثالثة التي يخفّض فيها صندوق النقد الدولي توقّعاته خلال ستة أشهر. وتعتقد كبيرة الاقتصاديين الجديدة في صندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث أن الاقتصاد العالمي دخل «لحظة حسّاسة». وقدّمت غوبيناث نظرة حاسمة للوضع شرحتها بما يلي: «إذا لم تتحقّق المخاطر المتوقّعة وكانت سياسة الدعم المطبّقة فعّالة، يجب أن ينتعش النموّ العالمي. ولكن إذا تحقّق أي من المخاطر الكبرى فإن الانتعاشات المتوقّعة في الاقتصادات المأزومة والاقتصادات المُعتمدة على الصادرات والاقتصادات المثقلة بالديون، لن تحصل».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وبالتوازي مع رأي صندوق النقد الدولي، قدّمت مؤسّسة «بروكينغز» نظرتها حول الاقتصاد العالمي، وخلصت من مؤشّرها لتتبع النشاط الاقتصادي إلى أن العالم دخل «تباطؤاً متزامناً»، قد يكون من الصعب قلبه. ويقارن مؤشّر «بروكينغز - فايننشال تايمز» لتتبع الانتعاش الاقتصادي العالمي (تايغر) مؤشّرات النشاط الحقيقي والأسواق المالية وثقة المستثمرين بمعدّلاتها التاريخية للاقتصاد العالمي ولكل دولة على حدة. وقد تراجعت القراءات الرئيسية بشكل ملحوظ في نهاية العام الماضي، وهي الآن في أدنى مستوياتها للاقتصادات المتقدّمة والناشئة على حدّ سواء منذ عام 2016، العام الذي شهد أضعف أداء للاقتصاد العالمي منذ الأزمة المالية.
لم تعتقد بروكينغز أن الركود كان وشيكاً، ولكنها لاحظت أن «جميع أجزاء الاقتصاد العالمي تفقد زخمها». فحتى لو لم يقع الركود العالمي بعد، فإن أحدث البيانات عن الاقتصادات الكبرى تظهر بأن الكساد الطويل، كما وصفت هذه الفترة منذ عام 2009، لا يزال مستمراً. وبرأي الخبير الاقتصادي (المُخالف للإجماع) فرانسيس كوبولا، فإن الرأسمالية حبيسة حالة كساد طويل، ويطرح أفكاراً مماثلة لأفكاري حول النتائج. ولكن بالنسبة إلى الأسباب، يتمسّك كوبولا، شأنه شأن الكينزيين الآخرين، بفكرة «الركود طويل الأمد»، لا سيّما أن الكساد يعود إلى «نقص مزمن في الطلب». ويعرف القرّاء المنتظمون لمدوّنتي أنني لا أعتقد أن هذا تفسير مناسب للأزمات والكساد. ففي اقتصاد يحقّق الربح، تعتبر ربحية رأس المال هي العامل الأهم.
وفي هذا السياق، يقدّم التقرير الجديد حول الاستقرار العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي دعماً أكبر لتفسيري لأسباب الكساد الطويل. وتأكيداً لما أظهرته بالتجربة من قبل، وجد صندوق النقد الدولي أن ربحية الشركات (كما تقاس بأرباح الشركات كحصّة من مخزون الأصول) في الاقتصادات الكبرى لم تستعد مستواها لما كان عليه في عام 2008. والواقع أنّ ربحية رأس المال أدنى من مستويات أواخر تسعينيات القرن العشرين.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يتّسم الكساد الطويل بخاصّيات مشابهة لكساد القرن التاسع عشر والكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد تمثّل الحلّ للأول في سلسلة من التخفيضات في الأسعار قادت في نهاية المطاف إلى رفع الربحية، والثاني تمثّل حلّه بحرب عالمية. وبرأيي سيعالج الكساد الحالي مثل كساد القرن التاسع عشر.
قبل كل شيء، يفسّر انخفاض الربحية سبب ضعف استثمارات الشركات منذ عام 2009. وتحوّلت الأرباح المُحقّقة إلى مضاربات مالية: عمليات دمج واستحواذ، إعادة شراء للأسهم وتوزيع أرباح. وكان هناك تكديس للسيولة. وكل ذلك لأن ربحية الاستثمار المُنتج بقيت منخفضة تاريخياً.
وكما كتبت جيليان تيت في «فايننشال تايمز»: «يحتسب صندوق النقد الدولي بأن الشركات الأميركية أجرت عمليات توزيع للأرباح على المساهمين وإعادة شراء للأسهم تساوي قيمتها 0.9% من الأصول في العام الماضي، أي ضعف المستوى المسجّل في عام 2010. وليس غريباً أن ترتفع أسواق الأسهم. وتستخدم الشركات أيضاً هذه الفورة في عمليات الدمج والاستحواذ: التهمت هذه الصفقات دفعات نقدية تعادل 0.4% من الأصول في عام 2019، مقارنة بلا شيء تقريباً في عام 2011. ولكن على النقيض من ذلك، بقي مقدار التدفّق النقدي الذي أنفق على النفقات الرأسمالية، ثابتاً منذ عام 2012، حيث يبلغ نحو 0.7% من جميع الأصول - أصغر من التدفّق النقدي الذي ينفق على توزيع الأرباح على المساهمين». أو كما يشير تقرير صندوق النقد الدولي: «استُخدمت الأرباح الصلبة في الولايات المتّحدة لتوزيع الأرباح وغيرها من المخاطرات المالية». ولكن ليس للمزيد من الاستثمارات على ما يبدو.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أمّا العامل الرئيسي الآخر في الكساد الطويل فكان ارتفاع الديون لا سيّما ديون الشركات. ففي ظل انخفاض الربحية، تراكم الشركات الدَّيْن من أجل تمويل مشاريع أو المضاربة. ويمكن لشركات مثل «آبل» أو «مايكروسوفت» أن تفعل ذلك لأن لديها تراكماً للسيولة يدعمها في حال وقوع أي خلل. أمّا الشركات الأصغر فيمكنها أن تعالج حلقة الدَّيْن هذه لأن معدّلات الفائدة تبقى عند أدنى مستوياتها، وبالتالي تبقى خدمة الدَّيْن مُمكنة طالما لم يحصل تراجع في المبيعات والأرباح.
ومجدّداً لخّص تقرير الاستقرار العالمي لصندوق النقد الدولي المسألة: «تحسّنت القدرة على سداد خدمة الدَّيْن في معظم الاقتصادات المتقدّمة، وتبدو الميزانيات العامة قوية بالقدر الكافي لتحمّل حدوث تباطؤ اقتصادي معتدل أو تشديد تدريجي للأوضاع المالية. ولكن يلاحَظ ارتفاع الدَّيْن والمخاطر المالية ككل، وتدهور المرتبة الائتمانية لبعض المقترضين في أسواق السندات الاستثمارية وأسواق القروض المدعومة. ويمكن لحدوث هبوط اقتصادي كبير أو تشديد حادّ للأوضاع المالية أن يقود إلى إعادة تسعير ملحوظة لمخاطر الائتمان كما يمكن أن يفرض ضغوطاً على قدرة الشركات المدينة على خدمة دينها. وإذا ظلت الأوضاع النقدية والمالية ميسّرة، فمن المرجح أن يزداد ارتفاع الدَّيْن في غياب أي إجراء علاجي من خلال السياسات، ما يثير شبح هبوط أعمق في المستقبل».
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لكل أزمة مسبّب مختلف أو تقريبي. فالركود الدولي الذي حدث بين عامي 1974 و1975 نجم عن الارتفاع الحادّ في أسعار النفط وإلغاء الولايات المتحدة للتحويل الدولي المباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب. أما الركود الذي حدث بين عامي 1980 و1982، فنجم عن فقاعة الإسكان في أوروبا وأزمة التصنيع في الاقتصادات الكبرى. وتسبّبت حرب العراق وأسعار النفط بالركود بين عامي 1990 و1992. أما الركود المعتدل في عام 2001 فكان نتيجة انفجار فقاعة الإنترنت. وبدأ الركود العظيم بانفجار فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة وما تلاها من أزمة ائتمان ناجمة عن التنويع الدولي لمشتقّات الائتمان. ولكن المشترك بين كل هذه الأزمات كان تراجع ربحية رأس المال الإنتاجي، والذي قاد في نهاية المطاف إلى تباطؤ كتلة الأرباح أو انخفاضها (علاقة الربح بالاستثمار).
هذه المرّة، أعتقد أن المسبّب سيكون ديون الشركات، فمع رزوح الأخيرة تحت ثقل الائتمان الرخيص في ظلّ تراجع الأرباح وارتفاع تكاليف الفائدة، تصبح معسّرة. ويوافق الاقتصادي الماركسي إيريك توسان على ذلك، إذ يرى أن «جبل ديون الشركات الخاصة سيشكّل عاملاً رئيسياً في الأزمة المالية المقبلة». ويشير إلى أنه «مع ارتفاع معدّلات الفائدة تتراجع قيمة ديون الشركات. وكلّما زادت حصّة الديون الغارقة في أصول الشركة، كلّما تعاظم التأثير السلبي على ميزانيتها. وتتراجع قيمة أسهم الشركات أيضاً وقد تصل إلى حدّ لا تستطيع أن تغطّي التزاماتها. ففي عام 2016، أبلغت شركة «آبل» السلطات الأميركيّة أنه في حال زيادة أسعار الفائدة بنسبة 1%، ستخسر 4 مليارات دولار. بالطبع، مثلها مثل الشركات الأخرى، اقترضت شركة «آبل» لتمويل شراء ديونها. في عام 2017، اقترضت 28 مليار دولار ما رفع مجموع ديونها إلى 75 مليار دولار. ومن شأن ذلك أن يؤدّي، من خلال تأثير الدومينو، إلى أزمة تضخّم بحجم الأزمة المالية في الولايات المتحدة عامي 2007 و2008».
وكما قالت كبيرة اقتصاديي صندوق النقد الدولي: «الرأسمالية في لحظة حسّاسة».

* Michael Roberts Blog
* ترجمة: لمياء الساحلي