يقول العالم والمخترع الإسكتلندي الشهير ألكسندر غراهام بيل: «عندما يغلق باب ما، يفتح باب آخر». هذه المقولة تنطبق على تطوّر صناعة النفط والغاز. على مرّ العقود، واجهت هذه الصناعة تهديدات عدّة مثل تأميم أصولها ووضع أنظمة وسياسات تقييدية، فيما يكمن التحدّي الآن في الطاقة البديلة. ومع ذلك، لقد تمكّنت هذه الصناعة باستمرار من إعادة ابتكار نفسها والتكيّف مع شروط الاستكشاف الجديدة القائمة على الابتكارات التكنولوجية، بما في ذلك التقنيات المتّبعة في قطاعات أخرى.حالياً، تواجه صناعة النفط والغاز ضغوطاً متزايدة وتهديدات خارجية شديدة. وتحاول الحكومات في كلّ أنحاء العالم تنظيم عملية الانتقال إلى عصر ما بعد الوقود الأحفوري. ينظر صنّاع القرار، إلى أبعد من استخدام النفط والغاز والفحم، من خلال سعيهم للحدّ من انبعاثات الكربون وتأثيرها الضارّ في المناخ. وفي حين يتزايد انتشار الطاقة المتجدّدة بوتيرة سريعة، إلّا أن مساهمتها في مزيج الطاقة الأولية العالمي لا تزال صغيرة. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، لا يزال النفط والغاز يلبّيان 60% من حاجات العالم من الطاقة، ويلمسان تقريباً كل جانب من جوانب المجتمعات الحديثة. وبالتالي، فإن التحدّي الذي يواجه صناعة النفط والغاز هو الاستمرار في توفير الوقود الذي تحتاجه اقتصادات العالم، مع التقليل من تأثير أنشطتها في البيئة وجعل استهلاك منتجاتها أكثر كفاءة. والتطوّرات التكنولوجية الحاصلة تجعل هذه المهام ممكنة.
دوّامة مستمرّة
أقدم استخدام على نطاق واسع للبترول (على شكل كيروسين) كان يخصّص للإضاءة. في منتصف القرن التاسع عشر، كان الكيروسين بديلاً أرخص بكثير ومتوافراً على نطاق أوسع بالمقارنة مع زيت الحيتان. لكن عندما اخترع الأميركي توماس أديسون أول مصباح كهربائي في عام 1879، جفّ سوق مصابيح الكيروسين. ومع ذلك، فإن اختراع محرّك الاحتراق الداخلي الذي يعمل على البنزين في أواخر القرن التاسع عشر أعطى معنى جديداً للتنقّل. إذ حلّت السيّارة مكان الأحصنة والعربات التي تجرّها الدواب، وأنشأت سوقاً جديدة للنفط. ومنذ ذلك الحين، بقيت هيمنة النفط على قطاع النقل من دون منازع.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

عندما عصفت موجة التأميم بشركات النفط والغاز الغربية الكبرى، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بما أدّى إلى فقدان أصولها الإنتاجية في مناطق أساسية مثل الشرق الأوسط، دافعت هذه الشركات عن أعمالها عبر استكشاف مناطق جديدة مثل ألاسكا وبحر الشمال، والحفر في مياه أعمق ومجهولة. كان هذا المخزون يُعتبر في السابق «غير تقليدي» وخارج الحدود، فقط لأن تقنية الاستكشاف في المناخات القاسية والمياه العميقة لم تكن صالحة تجارياً في ذلك الوقت.
بفضل التكنولوجيا، لقد تطوّر تعريف الجدوى التجارية في شكل كبير منذ ذلك الحين. وحتى وقت ليس ببعيد، كانت الأعماق دون 200 متر بمثابة مياه عميقة. أمّا اليوم، باتت هذه الصناعة تحفر الآبار عن بعد وعلى أعماق أعلى، وتتحكّم بها بدقّة وتحت ظروف ضاغطة، لم يكن من الممكن تصوّرها سابقاً. في عام 2016، حفرت سفينة Maersk Venturer الدنماركية بئراً على بعد 250 كيلومتراً من ساحل الأورغواي الأطلنطي وعلى عمق 3400 متر.
عندما ساد الخوف من نفاد النفط في العالم – أو ما يسمّى ذروة إمدادات النفط – في العقد الأوّل من هذا القرن، افتُتح فصل جديد في سجلات صناعة النفط والغاز. لقد أتاحت ثورة الصخر الزيتي (الصخور النفطية) في أميركا الشمالية إمكانية استخراج النفط والغاز، من مخزون غير تجاري في السابق وموجود في الصخر النفطي ذي النفاذية المنخفضة، وذلك بفضل مزيج من تقنيات الحفر الأفقي والتكسير الهيدروليكي. ما بدأ كـ«ثورة صامتة»، مدفوعاً في المقام الأول من قبل الشركات الصغيرة المستقلّة، غيّر أسواق النفط والغاز العالمية في شكل أساسي.
بالنظر إلى المستقبل، تواجه الصناعة تهديداً آخر يطاول نموذج أعمالها التقليدي. في قمة G7 السنوية في عام 2015، اتفق قادة أكبر سبعة اقتصادات متقدّمة في العالم على التخلص تدرّجياً من استخدام الوقود الأحفوري بحلول نهاية القرن. وأعلنت كلّ من فرنسا والمملكة المتحدة أنها ستحظر بيع محرّكات البنزين والديزل بدءاً من عام 2040. وبموازاة ذلك، ازدهرت مبيعات السيارات الكهربائية في دول الشمال – الدنمارك وفنلندا وآيسلندا والنرويج والسويد – التي تقود، على ما يبدو، مسيرة لا يمكن وقفها.
وفي الوقت نفسه، تتوسّع الطاقة المتجدّدة والنووية بسرعة في الصين التي تعدّ أكبر مستهلك للطاقة في العالم. كما أن الأهداف المتشدّدة للحدّ من الانبعاثات المرتبطة باستهلاك النفط، مثل معيار المنظّمة البحرية الدولية لعام 2018 (IMO) للحدّ من تلوث الكبريت المنبعث من السفن، تضع قيوداً إضافية على هذه الصناعة. بحيث تمّ استبدال المخاوف المتعلّقة بذروة إمدادات النفط بالحديث عن ارتفاع الطلب على النفط، على رغم أن أحداً لا يعلم متى سيتم الوصول إلى هذه النقطة. فضلاً عن أن القوة العاملة العالمية المتقادمة والنقص المتزايد في العمالة الماهرة لا يساعدان الصناعة أيضاً.
تخضير النفط والغاز
ردّاً على هذه التحدّيات، أصبحت شركات النفط والغاز منهمكة بإعادة رسم صورة خاصة بها بصفتها صناعة قادرة على الازدهار في عصر أكثر خضرة. ومبادرة النفط والغاز في شأن المناخ (OGCI) هي مثال على ذلك. لقد أُطلق هذا المشروع في عام 2014، بإدارة الرؤساء التنفيذيين لـ13 شركة نفط وغاز عالمية خاصة أو مملوكة من الدول، بما فيها BP – Chevron – CNPC – Equinor – ENI – ExxonMobil – OXY – Pemex – Petrobras – Repsol – Aramco السعودية – Shell – Total. وتهدف المجموعة إلى خفض انبعاثات الغازات الدفيئة من خلال التعاون والتكنولوجيا. في عام 2016، أنشأت المجموعة صندوقاً استثمارياً بقيمة مليار دولار، تحت اسم OGCI لاستثمارات المناخ لدعم التقنيات الواعدة القادرة على الحدّ من انبعاثات الغازات الدفيئة.
وعلاوة على ذلك، كلّ من هذه الشركات المعنية (وغيرها من شركات النفط والغاز) لديها برامج تكنولوجية خضراء خاصّة بها. في وقت سابق من هذا العام، استحوذت BP على 43% في أكبر شركة لتطوير الطاقة الشمسية في أوروبا، ومن ثمّ أعلنت أنها ستشتري Chargemaster وهي الشركة البريطانية الرائدة في شحن السيارات الكهربائية. فيما تستثمر Equinor النرويجية في مشاريع لتحويل الغاز الطبيعي إلى هيدروجين (من طريق إزالة الكربون والهيدروكربونات). أمّا شركة Petroleum Development Oman (التي تمتلك حكومة سلطنة عمان 60% منها ومجموعة Shell نحو 34% منها وTotal نحو 4%، وPartex نحو 2%)، فقد أقامت شراكة مع GlassPoint التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، لبناء Miraah وهي منشأة للطاقة الحرارية الشمسية بقدرة 1.021 ميغاواط في حقل أمل بجنوب عُمان. ويهدف المشروع إلى رفع قدرة استصلاح الحقل النفطي.
قد يجادل المتشائمون بأن الاستثمار في الطاقة الخضراء البديلة لا يزال ضئيلاً بالمقارنة مع إنفاق هذه الشركات على عملياتها الأساسية في النفط والغاز. على سبيل المثال، من المتوقّع أن يصل الاستثمار الرأسمالي لشركة Shell بين عامي 2018 و2020 إلى 25 – 30 مليار دولار سنوياً. وسيخصص فقط 1 – 2 مليار دولار من هذه المبالغ (وهو ما يشكّل 4- 7% من مجمل هذه الاستثمارات) لمصادر طاقة «جديدة»؛ أمّا الاستثمارات الباقية فستذهب إلى منابع النفط والغاز.
على رغم ذلك، يمكن عرض هذه الأرقام من زاوية مختلفة. من ناحية، يتطلّب التنقيب على النفط والغاز وإنتاجه الاستمرار في ضخّ رأس المال، لأن نضوب حقول النفط تجعل منها صناعة متراجعة في شكل طبيعي. ومن ناحية أخرى، يبقى انطلاق أي تقنية جديدة مرتبط بإمكانيّاتها التجارية.
تكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه (CCS)، التي تمنع نحو 90% من ثاني أكسيد الكربون (CO2) المنبعث من الوقود الأحفوري من الدخول إلى الغلاف الجوي، موجودة منذ أكثر من 20 عاماً. والمشروع الأوّل في هذا المجال، أطلق في حقل Sleipner النرويجي للتخزين البحري، وهو يعمل منذ عام 1996. إلا أن تكاليف هذه التكنولوجيا والتباين الحكومي حولها، أعاقت تطبيقها على نطاق واسع. ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، لقد شهد التأييد السياسي لهذه التقنية تذبذبات حادّة، إذ ارتفع خلال العقد الأول من هذا القرن ومن ثمّ تراجع بعد عام 2009. وتزامن هذا التحوّل مع فشل اجتماع كوبنهاغن في شأن تغيّر المناخ والأزمة المالية العالمية.
ومع ذلك، يبدو أن الاتجاه قد عكس نفسه مرة أخرى. في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، على سبيل المثال، أعلنت الحكومة البريطانية عن هدفها في جعل المملكة المتحدة رائدة عالمية في تطبيق تكنولوجيا احتجاز الكربون وتخزينه، بشرط خفض تكاليفه بشكل كافٍ.
صناعة رقمية
ولّدت تقنيات الجيل الجديد لتكنولوجيا المعلومات المزيد من الإثارة في صناعة النفط والغاز، خصوصاً التقنيات المتعلّقة بالذكاء الاصطناعي (ما يعرف أيضاً بالتعلّم الآلي)، والـBlockchain، والحوسبة السحابية، والروبوتات، وإنترنت الأشياء. من الواضح، أن هذه التكنولوجيات المعلوماتية تعصف بقطاع الطاقة.
تتمحور الرقمنة في شكل أساسي حول البيانات، ولم تعد صناعة النفط والغاز، بالمعنى البديهي، غريبة عن «البيانات الضخمة». في الواقع، كل عملية حفر لبئر نفطي واحد تولّد كمّيات هائلة من المعلومات التي يتمّ تخزينها، وحتى وقت قريب، كانت تستخدم في شكل جزئي فقط. في هذه الأيام، تقوم التكنولوجيا الرقمية بجمع مجموعات ضخمة من البيانات المنوّعة، وبشكل سريع، وتحوّلها إلى معلومات قابلة للاستعمال والمشاركة مع شبكات أوسع. والنتيجة ليست إلّا عملية صنع قرار أفضل وأكثر دقّة وأسرع، وعمليات أكثر كفاءة، وأداء أكثر قابلية للتنبؤ. كما أن الرقمنة تقلّل من أثار «العامل البشري» أي التعرّض لمخاطر الأخطاء.
تشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن استخدام التكنولوجيات الرقمية قادرة تقنياً على تعزيز موارد النفط والغاز القابلة للاسترجاع أو الاستصلاح، بنسبة 5% على مستوى العالم، وتقلّل تكاليف الإنتاج بنسبة 10 إلى 20%. ويتحقّق هذا التوفير من خلال المعالجة المتقدّمة للبيانات السيسمية واستخدام أجهزة الاستشعار وتحسين قوالب التخزين. وتصف دراسة أعدّها بنك Barclays للاستثمار، الرقمنة على أنها عملية تحويل المليارات من البيانات التي يتمّ جمعها سنوياً إلى تدفقات نقدية ملموسة، من خلال تخفيض التكاليف وزيادة الإنتاج. وهذا بدوره سيساعد على سدّ الفجوة الكبيرة في الإنتاجية، بين الـ«Big Oil» أي شركات النفط والغاز الست الكبرى والاقتصاد الأوسع، حيث يتخلّف قطاع النفط عن الركب، وفقاً لـBarclays.
ممّا لا شكّ فيه، أن الرقمنة هي الاتجاه التكنولوجي الأسرع تقدّماً في صناعة الطاقة. وسيظهر تأثيرها بالتدرّج خلال السنوات المقبلة. وستنمو هذه التقنيات بشكل بارز متى تدرك صناعة النفط والغاز أهميتها للحفاظ على قدرتها التنافسية، وهو ما يعدّ المفتاح لضمان الاستمرارية. من هنا، يعدّ حجم الاستثمارات التي تخصّصها شركات النفط والغاز لتطوير التكنولوجيات الجديدة وتطبيقها، مؤشراً هامّاً على نيّتها بالاستمرار لسنوات وعقود مقبلة.

* المديرة التنفيذية لشركة Crystol Energy

* Geopolitical Intelligence Services


التأقلم مع المستقبل ما بعد الأحفوري
• تستثمر ExxonMobil نحو مليار دولار سنوياً في مجال البحث والتطوير.
• في عام 2004، افتتحت BP محطّتين لتوليد الوقود الهيدروجيني، في الولايات المتحدة، صمّمتا لتسهيل الاختبار الميداني للمركبات العاملة على خلايا الوقود والبنية التحتية المرتبطة بها. وبعد عام، افتتحت الشركة المحطة الأولى للتزوّد بالوقود الهيدروجينى في المملكة المتحدة.
• في كانون الثاني/ يناير 2018، أعلنت Shell استحواذها على 43.8% من شركة Silicon Ranch للطاقة الشمسية، مع إمكان زيادة حصّتها بعد عام 2021.
• تقوم شركة Total بإنتاج الوقود الحيوي منذ أكثر من 20 عاماً.


تقدّر دراسة أعدّها مصرف Barclays بأن شركات النفط والغاز الكبرى تعاني من فجوة في إنتاجية العمالة بنسبة 30%، وفجوة في إنتاجية رأس المال بنسبة 40%، بالمقارنة مع اقتصاديات البلدان المنضوية تحت منظّمة التعاون والاقتصادي والتنمية (OECD).