بدأت تَظهر إلى العلن تشقّقات داخل الحكومة العراقية، على خلفية خلافات بين رئيسها، محمد شياع السوداني، وقوى «الإطار التنسيقي» التي رشّحتْه للمنصب وأمّنت الثقة لحكومته، تتمحور حول طريقة تعاطي الأخيرة مع الولايات المتحدة، التي تمكّنت على ما يبدو من استمالة رئيس الوزراء، ونجحت في تحييد المناصب الأمنية الحسّاسة عن تأثير «التنسيقي». ولتحقيق هذا الهدف، تَستخدم الولايات المتحدة أدوات ضغط تجلّت حديثاً في تقنين الدولار في السوق العراقية، من خلال معاقبة بنوك عديدة، ما أدّى إلى انخفاض قيمة الدينار، وكذلك في تحريك مجموعات «داعش» التي شنّت سلسلة هجمات أدّت إلى سقوط قتلى بين أفراد القوى الأمنية، ولا سيما في كركوك، وصولاً إلى التلويح بتحريك الشارع من بوّابة المطالب الحياتية، أو من بوّابة الصراعات السياسية التي لا يزال العراق يشكّل أرضاً خصبة لها. وعليه، بدأت تلوح أسئلة حول ما إن كانت هذه الحكومة ستتمكّن من إكمال ولايتها، أو حتى ما إنْ كانت ستستمرّ لمدّة السنة التي وعدت بأن تُجري خلالها انتخابات برلمانية مبكرة، ولا سيما أنها على وشك الإخلال بأوّل وعودها، وهو إعداد قانون انتخابي جديد في الأشهر الثلاثة الأولى من عمرها. ويقف «التيار الصدري»، الذي كان قد رهن سكوته عن تشكيل الحكومة بإجراء تلك الانتخابات، بالمرصاد، لاستئناف تحرّكاته في الشارع في حال فشل السوداني في الوفاء بهذا التعهّد.وعلى الرغم من أن الخلافات تدور منذ أسابيع، حيث يأخذ «التنسيقي» على السوداني تفرّده بالقرارات، خلافاً لوعده بالتشاور مع قِواه في التعيينات الأساسية، إلّا أن ظهورها إلى العلن تزامَن مع إحياء الذكرى الثالثة لاغتيال الشهيدَين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، والتي اتّخذها أطراف «التنسيقي»، ولا سيما منهما المرتبطون بـ«الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة، مناسبة لتجديد الدعوة إلى طرْد ما تبقّى من القوّات الأميركية في العراق، في ما بدا رسالة تحذيرية ضمنية إلى السوداني من الذهاب بعيداً في الاستجابة للمطالب الأميركية. أيضاً، ضمّنت الفصائل هجومها على السوداني انتقادات لتَقاربه مع السعودية. ومن شأن عودة اللهجة التصعيدية ضدّ الجانبَين الأميركي والسعودي من قِبل داعمين للحكومة في البرلمان، أن تضع السوداني في موقف صعب، بعدما كان من أولى نتائج الأزمة في العلاقات بينه وبين «التنسيقي»، عدم حضوره اجتماعاً لقادة الأخير انعقد في اليوم الأوّل من العام الجديد، وذلك للمرّة الأولى منذ تسلّمه منصبه.
وتتمحور أبرز الخلافات حول لجوء السوداني إلى تعيين أقرباء له في مناصب حسّاسة، خاصة في جهاز المخابرات، كانت قد شملتْها حملة الإقالات التي قام بها، وطاولت من عَيّنهم سلفه، مصطفى الكاظمي. واعتبر أطراف في «التنسيقي» تلك التعيينات محاولة من رئيس الوزراء لإبقاء المواقع الأمنية الحسّاسة تحت سيطرته، تجنّباً لإغضاب الأميركيين الذين أعادوا بناء الأجهزة الأمنية وفق الطريقة التي تُناسبهم، وبعيداً عن أيّ تأثير لقوى «الإطار» التي كانت تُمنّي النفس بتقاسم هذه المناصب، باعتبارها جزءاً من الحكومة. وتتناول احتجاجات «التنسيقي» التي عبّر عنها بشكل خاص الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، تعيين أحمد إبراهيم السوداني مديراً لمكتب رئيس جهاز الاستخبارات، حيث يدير الجهاز بكامله اليوم، بعدما تولّى رئيس الوزراء بنفسه منصب رئيس الجهاز مؤقّتاً حين أقال الرئيس السابق له، رائد جوحي. أيضاً، عيّن السوداني قريبَين آخرَين له، هما اللواء سامي السوداني مستشاراً لرئيس الوزراء لشؤون المنافذ الحدودية والجمارك، والفريق عبد الكريم السوداني مستشاراً أمنياً للقائد الأعلى للقوات المسلّحة. ولعلّ واحداً من النماذج التي تجلّي استفادة واشنطن من سيطرتها على الأجهزة الأمنية العراقية، ذلك الذي تحدّثت عنه مصادر في مدينة الحسكة السورية قبل أيام، وأوردتْه وكالة الأنباء الرسمية السورية «سانا»، حين أشارت إلى أن القوات الأميركية نهبت حمولة 60 شاحنة وصهريجاً من النفط والقمح السوريَّيْن، وأخرجتْها إلى قواعدها في شمال العراق.
السوداني عيّن أقرباء له في مناصب أمنية حسّاسة بعيداً عن تأثير «التنسيقي» تجنّباً لإغضاب الأميركيين


التجاذبات داخل الحكومة العراقية بين «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة من جهة، وبين القوى السياسية من جهة ثانية، حول مسألة العلاقة مع الأميركيين ليست جديدة ولا معطّلة دائماً، وهذا ما يفسّر سبب إبداء السفيرة الأميركية في بغداد، آلينا رومانوسكي، حماسة كبيرة لتشكيل الحكومة، على رغم أن المكوّن الأساسي فيها هو «الإطار التنسيقي» الذي تُعتبر قِواه كافّة حليفة لإيران. ومع أن تسهيل التشكيل نجم عن حاجة أميركية إلى تحقيق قدْر من الاستقرار في سوق النفط العالمية التي شهدت اضطراباً كبيراً على خلفية حرب أوكرانيا، إلّا أن ذلك لا يمنع واشنطن من السعي إلى التحكّم إلى الحدّ الأقصى بأداء الحكومة في إطار مواجهتها المفتوحة مع إيران. لكنّ العودة إلى تصعيد لهجة «الحشد» والمقاومة اللذَين يتفهّمان مقتضيات العلاقة بين واشنطن وبغداد - وإنْ تعامَلا مع الأولى كقوّة احتلال -، تشير إلى أن الأميركيين تخطّوا الحدود في محاولتهم التضييق على تلك القوى وحرمانها من المشاركة في القرار من خلال وجودها في السلطة التنفيذية. ولذا، فإن الأطراف المستهدَفة صارت تلوّح بسحب الثقة من حكومة السوداني في البرلمان، إنْ استمرّت الحال على ما هي عليه.