بغداد | أظْهر ضعف التظاهرات في الذكرى الثالثة لحراك تشرين العراقي، ضيق هامش استخدام الشارع لفرض الأجندات السياسية، خصوصاً أمام «التيّار الصدري» الذي كان يريد على الأقلّ اختبار إمكانية التحرّك شعبياً مرّة أخرى. إلّا أن هذا التحرّك لم يَعُد، في الحدّ الأدنى، ممكناً إلّا وفق حسابات دقيقة، لا سيما في ظلّ رفض القوى «التشرينية» التعاون مع «الصدريين»، والاهتمام الدولي بإبقاء الساحة العراقية بعيدة عن النيران تلافياً لأيّ تداعيات غير مرغوبة في سوق الطاقة. ومن هنا، وعلى رغم الغموض الذي اكتنف تغريدة مقتدى الصدر الأخيرة، غير أن الباب أمام إنتاج تسوية تتيح تشكيل حكومة «لا صدرية ولا إطارية» لا يبدو موصَداً تماماً
أثارت الصورة الباهتة التي ظهر عليها «حراك تشرين» العراقي في ذكراه الثالثة، تقييمات كثيرة لأسباب هذا الوهن، الذي تقاطعت عوامل كثيرة للإفضاء إليه، من بينها انقسام قادة الحراك منذ انطلاقته عام 2019، وتَوزّعهم على فئات مختلفة، بين مَن دخلوا البرلمان في الانتخابات؛ ومَن عملوا كمستشارين لرئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، باعتبار أن تعيين الأخير في منصبه جاء كنتيجة للتظاهرات؛ ومَن انضمّوا إلى الأحزاب السياسية الكلاسيكية التي قاموا ضدّها. على أن السبب الرئيس لتراجُع زخم التظاهرات، يبدو أنه مرتبط بحرص ما تَبقّى من قادة «تشرين» على منْع إشراك «التيّار الصدري» أو غيره من الأطراف في احتجاجاتهم، حتى لا تتحوّل إلى مادّة للاستغلال في الصراع السياسي. ولعلّ ذلك هو ما دفع أنصار التيّار إلى قصْر حضورهم في الفعّاليات على أعداد قليلة جدّاً - بشكل غير رسمي -، مِمّن أرادوا التعبير عن غضبهم المستمرّ منذ أحداث «المنطقة الخضراء» التي شهدت سقوط عشرات القتلى، غالبيّتهم من «الصدريين» في نهاية آب الماضي.
مذّاك، لم ينظّم «الصدريون» أو يشاركوا في أيّ تظاهرات كبيرة، وإنْ كانوا انخرطوا في بعض الأحداث الأمنية في محافظات جنوبية كالبصرة وذي قار خلال الأيام الماضية، وهو ما يؤشّر إلى أن النزول إلى الشارع لم يَعُد ممكناً إلّا وفق حسابات دقيقة، وبناءً على مبرّر واضح مِن مِثل اتّخاذ «الإطار التنسيقي» وحلفائه إجراءات «استفزازية» على صعيد تشكيل الحكومة الجديدة، وهذا ما تنبئ به أيضاً تغريدة زعيم «التيّار الصدري»، مقتدى الصدر، أوّل من أمس، والتي قَبِل فيها بالحوار، شرط أن يكون «علنياً، ومن أجل إبعاد كلّ المشاركين في العمليات السياسية والانتخابية السابقة ومحاسبة الفاسدين تحت غطاء قضاء نزيه». وممّا يضيّق هامش التحرّك أمام التيّار كذلك، التوجّس العالمي من إثارة أيّ مشاكل في مناطق النفط في العالم، بما يؤدّي إلى اهتزازات عنيفة في الأسواق، هي آخر ما تحتاجه الأخيرة في ظلّ تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية. وعكَست التوجّس المُشار إليه، بوضوح، مواقف ممثّلي الأمم المتحدة والدول الغربية، والذين حرصوا على نقل رسائل إلى القوى العراقية، تفيد برفضهم إشعال الوضع في البلد.
النزول إلى الشارع لم يَعُد ممكناً إلّا وفق حسابات دقيقة


وفي هذا الإطار، أعلنت ممثّلة الأمم المتحدة في العراق، جينين بلاسخارت، خلال الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن بشأن العراق، أن المنظّمة الدولية «تدعم مبادرة الحوار الوطني برعاية رئيس الوزراء، وتحثّ على مشاركة الجميع»، في إشارة ضمنية إلى «التيّار الصدري» الذي لا يزال يقاطع ذلك الحوار. وبدت تغريدة الصدر، تعليقاً على تلك الدعوة، مرتبكة؛ إذ «فَهم منها بعض المراقبين أن الصدر سيدفع في اتّجاه مشاركة جماهيرية في ثورة احتجاجية غاضبة من أجل عدم تمرير حكومة توافقية ومحاصصاتية»، وفق ما يلفت إليه الباحث السياسي القريب من التيّار، رافد العطواني، مستدركاً، في حديث إلى «الأخبار»، بأن «كلّ الأمور مفتوحة في قادم الأيام، ولكن لا يمكن البتّ في ظهور الصدريين كحركة احتجاجية قوية مرّة أخرى من عدمه. ربّما يكون هناك تغيّر في السلوك السياسي للقوى، يفتح حواراً مع الصدر أو يؤدّي إلى تسوية معه لتشكيل حكومة لا إطارية ولا صدرية». وبخصوص «حراك تشرين»، يتّفق العطواني مع القول إن «انقسام قادة التظاهرات هو من أهمّ أسباب تراجعها»، مشيراً إلى أن «بعض قوى الحراك ارتأت ما بعد أحداث المنطقة الخضراء، فصْل نفسها عن التيّار الصدري وعدم السماح بدخوله ضمن احتجاجاتها، حتى لا تُجيَّر التظاهرات لصالحه، ولذا قرّرت تنفيذ الاحتجاجات في أكثر من مكان مثل ساحة النسور وساحة التحرير». ويتحدّث عن «بعض الشكوك التي تُثار حول قيادات تشرين التي لم تَدخل إلى مجلس النواب مثل حركة امتداد، في أنه يتمّ توظيفها من قِبَل الأحزاب الكلاسيكية، وهي مَن أضعفت الحضور الجماهيري».
من جهته، يرى القيادي في «تحالف الفتح»، عبد الحسين الظالمي، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «تشرين في ذكراها الثالثة لم تَعُد كما انطلقت، بسبب بعض الممارسات والتصرّفات التي صدرت من البعض وأدّت إلى انقسام بين قياداتها، وأيضاً بسبب تراجع الدعم الشعبي لهذه التظاهرات، فضلاً عن السبب الأهمّ المتمثّل في الأحداث الدولية، وخصوصاً تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية التي جعلت القوى الدولية تتخوّف من أيّ مشاكل في مناطق الطاقة في العالم، ومنها العراق. ولذلك، نرى تغيّراً واضحاً في مواقف الأمم المتحدة، وأيضاً الاتحاد الأوروبي، عمّا كانت عليه إبّان تظاهرات عام 2019». ويَتوقّع الظالمي «تشكيل الحكومة من قِبَل ائتلاف إدارة الدولة في الأيام المقبلة، بعد استئناف مجلس النواب جلساته، حيث لم يبقَ سوى أن يتّفق الأكراد على مرشّح واحد لرئاسة الجمهورية، أو يأتوا إلى الانتخابات بمرشّحَين لإكمال الاستحقاقات الدستورية»، مستدركاً بأن «الأيام المقبلة لن تخلو من الأحداث التي ربّما تكون دامية في بعض المناطق».
على مقلب الحراك، يقيّم عضو المكتب السياسي في حركة «نازل آخذ حقي» التشرينية، نور الدين غازي، فعّاليات إحياء الذكرى بأنها «كانت جيّدة، حيث توافَد إخوتنا وأحبّاؤنا من بغداد وجميع المحافظات من أجل المشاركة، والتأكيد على المطالب التي رفعها الاحتجاج في بغداد والمحافظات، والتي لم ينفَّذ جزء كبير منها على رغم الوعود من قِبَل حكومة الكاظمي». إلّا أنه يقرّ، في حديث إلى «الأخبار»، بـ«نقاط ضعف عابها علينا بعض الناشطين، وكذلك بعض وسائل الإعلام، وسيتمّ تلافيها مستقبلاً، خاصة أننا نعتقد أن انتفاضة تشرين ما زالت فتيّة من حيث التنظيم»، مؤكداً رفض المشاركة مع «الصدريين» في أيّ تظاهرة أو تجمّع «لأننا نعتقد أن التيّار الصدري حاله حال الإطار التنسيقي، وبقيّة الكتل الكلاسيكية في العملية السياسية، وهو جزء من الحكومات المتعاقبة المتّهَمة بالفساد والفشل، وانسحاب نوابه من مجلس النواب لا يبرّئه من حجم الفساد الذي ضرب العراق على مدى عقدَين من الزمن».