تطلق «قوى تشرين» العراقية، اليوم، تظاهرات في بغداد والمحافظات، إحياءً للذكرى الثالثة للحراك. ويبدو العراق أكثر انقساماً وتفتتاً وبُعداً عن تحقيق أيٍّ من شعارات ذلك الحراك الذي تحوّل سريعاً إلى مطية امتطاها الخارج، وبالأخصّ الولايات المتحدة والخليج، في محاولة لتصويره على أنه «ثورة» ضدّ إيران، ثم استخدمته الأحزاب السياسية في صراعها على السلطة، لتتبعثر في النهاية قواه نتيجة الانقسامات بين المجموعات وداخل كل مجموعة، والارتباطات مع الخارج والصفقات مع قوى الداخل، لتصل إلى حالة وهْن عكستها نتائج الانتخابات التي أجريت في تشرين الأول الماضي، ولم تحصل فيها إلّا على بعض الفتات. ولذا، فمن غير المتوقّع أن تؤدّي فعاليات الإحياء اليوم، وفي الأيام المقبلة، إلى انبعاث هذا الحراك، كما تسعى إلى تقديمها القوى نفسها التي استغلّته عند اندلاعه، فيما محاولات الامتطاء مستمرّة، وآخرها تَجدُّد عروض الإغراء التي دأب «التيار الصدري» على تقديمها لها
عندما بدأ حراك تشرين في العراق عام 2019، كان الاحتجاج يطاول كل الأحزاب السياسية المشارِكة في السلطة، بلا استثناء. لكنه سرعان ما تحوّل إلى مطية لبعض قوى السلطة نفسها، كما للخارج القريب والبعيد، وفي المقدّمة الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، التي صارت لها مجموعات محدَّدة، تخترق من خلالها الساحة العراقية. وهذا مستمرّ حتى اللحظة. وعلى رغم أن حراك تشرين لم يستطع امتلاك تأثير كبير على الحياة السياسية في العراق، وحصل على حصّة نيابية متواضعة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، في مختلف المكوّنات، مقارنة بأحزاب السلطة، إلّا أنه أَوجد دينامية غيّرت تعاطي الشارع العراقي مع السلطة، بحيث صارت التظاهرات المطلبيّة شأناً يومياً، وانخرطت قوى السلطة نفسها في تلك الاحتجاجات، في صراعاتها مع بعضها البعض.
فالحراك الذي دام أشهراً، نجح في إسقاط حكومة الأحزاب التي شكّلها عادل عبد المهدي بناءً على نتائج انتخابات 2018، كما نجح في إيصال «ممثّله» إلى رأس هرم السلطة، متجسّداً بمصطفى الكاظمي، إلا أنه لم ينجح في امتلاك السلطة، ولم يكن متوقَّعاً له أن ينجح في ذلك، بعدما حاد عن شعاره الرئيس المتمثّل في المطالبة بإنهاء حالة الفساد وانتشال العراقيين من البؤس، بخضوعه للتأثيرات الخارجية وإجراء بعض قواه صفقات مع أحزاب السلطة، ما أدّى إلى انقسام مجموعات الحراك، بحيث بالكاد يمكن العثور على مجموعة واحدة بقيت متماسكة إلى اليوم. والأمثلة كثيرة، لكن أبرزها ما أصاب حركة «امتداد» التي يقودها النائب علاء الركابي، الذي أقال أخيراً عدداً من نواب الحركة، بسبب إعلان نيّتهم المشاركة في جلسة نيابية كان «الإطار التنسيقي» يريد عقْدها لتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، مُظهِراً مَيْلاً نحو التحالف مع مقتدى الصدر. ولم تكن حال «حزب البيت الوطني» بزعامة حسين الغرابي، وهو الثاني من حيث الجماهيرية داخل الحراك بعد «امتداد»، أفضل حالاً، بعدما انشطر بسبب عَقْد الغرابي صفقةً مع الكاظمي قضت بتعيين محافظ لذي قار من الحزب، وهو ما دفع عشرات القياديين فيه، إلى الاستقالة، ومن ثمّ إلى تنحّي رئيس الحزب عن منصبه. والانقسام أصاب كذلك «الحزب الشيوعي» العراقي بعد مآخذ على سكرتير اللجنة المركزية، رائد فهمي، الذي كان متحالفاً مع الصدر، إلّا أنه تراجع لاحقاً، معلناً الاقتراب من القوى «التشرينية»، معلناً تشكيل مظلّة تضمّ 20 مجموعة باسم «الخيمة العراقية».
منذ انطلاق التظاهرات عام 2019، برزت إشكالية في العلاقة بين القوى المحرّكة لها، وبين «التيار الصدري» الذي كان دائماً يلعب لعبة السلطة والمعارَضة معاً. ومنذ البداية، رفضت تلك القوى اعتبار التيار المتغلغل في إدارات الدولة والوزارات والقوى الأمنية العراقية، جزءاً منها، الأمر الذي أكدته مشاركة الأخير في حكومة ما بعد الحراك، أسوةً بأحزاب السلطة الأخرى، حتى أن بعض تلك القوى اتّهم التيار بمحاولة «سرقة الثورة» وبقمعها في بعض الأحيان، كما حدث في ساحة التحرير في بغداد حين تحدّث ناشطون عن اعتداء «القبعات الزرق» التابعين للصدر عليهم ومحاولتهم إخراجهم من الساحة.
لكن الحالات الغالبة للتفاعل الصدري مع الحراك، كانت للتقارب والتحالف، وبعضها قادها الصدر شخصيّاً. وهي محاولات تجدّدت لمناسبة إحياء الذكرى الثالثة للحراك، على شكل عروض لتنظيم تظاهرات مشتركة، إلا أن قوى الحراك رفضت مرّة أخرى هذا العرض، لإدراكها أن الصدر يريد الاستفادة من زخمها الشعبي لتحقيق مشروعه في الحكم، الذي فشل في تحقيقه من خلال مشاركته في الانتخابات الأخيرة، لعدم حصوله هو ومَن تحالف معهم من أحزاب السلطة في المكونات الأخرى، على غالبية كافية. وعندما قرّر النزول إلى الشارع وقلْب الطاولة، في ما وُصف بأنه «محاولة انقلاب» تضمّنت الاستيلاء على مقرَّي الحكومة والرئاسة، في نهاية آب الماضي، تبيّن أنه - أيضاً - لا يملك نصاباً كافياً في الشارع، فلم يجد أمامه إلّا العودة إلى «قوى تشرين»، التي لم تخفِ انزعاجها من أسلوبه الذي ينطوي على محاولات استفراد في الحكم لا يمكن أن تناسبها، بخاصة أن شعار «مكافحة الفساد» الذي رفعه يبقى شعاراً خاوياً إذا كان الفساد في نظره ينطبق على القوى الشيعية الأخرى فقط، ولا ينطبق على الحليفَين السابقَين الأساسيَّين في المكونَين السني والكردي، «تحالف السيادة» بقيادة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، و«الحزب الديموقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود بارزاني، وهما من بين الأكثر فساداً في البلد. وفي كل الأحوال، عاد الصدر وخسر حليفَيه الأخيرَين، بعدما تيقّنا من علوّ سقف مطالبه إلى درجة تجافي الواقعية.
مشرق الفريجي: تحركات الصدريين و«التنسيقي» تقع في خانة الصراع على السلطة، ولدينا أزمة ثقة مع القوى السياسية


ولكن بمعزل عن قبول الحراك أو رفضه، وبقاء الحليفَين أو انفضاضهما، فإن الصدر استفاد من ديناميّة «الحراك التشريني»، نتيجةَ تحكُّمه بالجزء الأكبر من الشارع الشيعي، بفضل إرث والده الشهيد محمد محمد صادق الصدر، وإدارته شبكة واسعة من المؤسسات الأهلية، وكذلك حضوره الكبير في إدارات الدولة، وعلاقاته الإقليمية المتنوعة، التي توفّر له مجتمعةً، إمكانات هائلة.
وعن العلاقة بين الحراك وأحزاب السلطة، يقول رئيس «حركة نازل آخذ حقي»، مشرق الفريجي، لـ«الأخبار» إن «كل تحرُّكات التيار أو الإطار تقع في خانة الصراع على السلطة. لذلك نحن لا نأمل الكثير من هذه التحرُّكات. ولدينا أزمة ثقة كبيرة مع القوى السياسية التقليدية. وثمة صدامات حصلت معها في ذلك الوقت في ساحة التحرير وفي المحافظات. وهذا يجعلنا في ريبة وشكّ دائمَين من أيّ تحرّكات تقوم بها هذه القوى». ويعتبر أن «كل حديث عن التقارب احتجاجيّاً مع الصدريين هو من الخيال، فلا يوجد شيء من هذا القبيل. يصدر ذلك فقط عن منصات إعلامية قريبة منهم، في محاولة لجرّ الشباب إلى صراعهم الذي نبرأ منه، ونقول دائماً إننا لسنا جزءاً منه. لكن العراق ليس حكراً على هؤلاء. فهناك أطراف أخرى راغبة في التغيير، منها المحتجّون، ومنها القوى السياسية الطامحة إلى التغيير التي تعمل بجهد كبير وتشمل أحزاباً ناشئة وأخرى انبثقت من روح تشرين».
هذا في جانب التفاعل الداخلي للحراك، صداماً أو اتفاقاً، إلا أن للحراك بُعداً أخطر هو البعد الخارجي الذي أطلّ برأسه من البداية، حين سعى الإعلام الغربي والخليجي، ولا سيما السعودي والإماراتي، إلى تصويره على أنه «ثورة» ضد إيران، علماً أن الفساد في العراق أميركي المنشأ، حتى وإنْ طاول بعضاً ممَّن يلعبون على حبال التحالفات مع إيران والولايات المتحدة ودول أخرى. ولا يخفى أن الحراك اختُرق منذ البداية بمجموعات تموّلها الولايات المتحدة ودول الخليج، ممَّن يريدون إشعال الاقتتال الداخلي. وهم مستمرّون في ذلك إلى اليوم، بخاصة داخل المكوّن الشيعي، بهدف إحراق أصابع إيران، ولا يردعهم عن ذلك سوى أن انفجار البركان العراقي سيصيب بحممه دولاً قريبة وبعيدة، وستكون عواقبه وخيمة على هذه الدول، بخاصة في ظلّ الحرب العالمية الطابع الدائرة في أوكرانيا.
لكن في النتيجة، أمكن القوى ذات التأثير الكبير في العراق، تحييد التأثير الاستراتيجي للحراك على كل منها، فظهرت حالات في الوسط بينها، لعلّ أفضل مَن يجسّدها هو الكاظمي الذي يسعى ليقدّم نفسه كمسهّل للحوارات بين تلك القوى، كما بين القوى الداخلية المؤثّرة. ومع أن الكاظمي يُعتبر من حصّة الأميركيين، إلّا أنه يدرك أنه لا يمكن لرئيس وزراء عراقي البقاء في الحكم إذا كان معادياً لإيران. وتمثّلت صلته بالحراك في «تيار المرحلة» الذي قام بتجميده قبل انتخابات تشرين الأول 2021، لأن المشاركة كانت تعني أنه سيكون طرفاً بائناً في الصراع بين القوى السياسية، وهو ما يَعدم عمليّاً حظوظه في البقاء على رأس الحكومة.
وفي توصيفه لـ«الحراك التشريني»، يرى القيادي في حركة «امتداد»، مسعد الراجحي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «ثورة تشرين العظيمة حركة جماهيرية عفوية انفجرت جرّاء تصرّفات حكومات العوائل التي استولت على مؤسسات الدولة، الأمر الذي مكّن الأحزاب التقليدية الفاسدة من الهيمنة على مقدّرات البلد المالية، فضلاً عن رعايتها للسلاح المنفلت. ومن الطبيعي أن كل ثورة جماهيرية تمثّل تهديداً للسلطة وأدواتها. لذلك، استغلت السلطة العفوية الجماهيرية والفقر وراحت تعزف على أوتار الطائفية والقومية والعرقية والمذهبية تارة، وتشتري ذمم عدد من الزعامات القبلية تارة أخرى. وتوّجت ذلك عبر الارتماء في أجندات خارجية». ويضيف: «يقابل ذلك وجود دستور يحمل في طيّاته بنوداً مثقلة بالإغفال الدستوري، وقوانين مغيّبة غير نافذة، مثل قانون الأحزاب، وانعدام العدالة الاجتماعية. وكل ذلك ولّد حالة من اليأس الشعبي ترافقت مع وجود نخبة نوعية أكاديمية ثائرة تحاول إيجاد سبل النجاح الوطني في أجواء تهيمن عليها أدوات الإعلام الممنهج في التسقيط وبثّ التفرقة بواسطة المال الحرام». ويتابع الراجحي: «هنا، انقسمت حناجر الاحتجاج إلى ثلاث مجموعات وفق مؤثرات داخلية، الأولى: وهم الذين لا يأتمرون بقيادة أيّ طرف من أطراف البعد الديني في النجف الأشرف، والذين أعلنوا مقاطعتهم للانتخابات. والثانية: الذين يؤمنون بالبعد المرجعي حيث أعلنوا أن لا حلّ إلّا عبر الانتخابات وتحت شعار المجرَّب لا يجرَّب. والثالثة: الذين التزموا بتوجيهات قياداتهم للعمل وفق سطور تغريدة عبر "تويتر" لتكون منطلقهم للفعل، فضلاً عن البعد الدولي الذي تنسجم مصالحه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع الإبقاء على الأنموذج الرخيص سياسياً والمؤدّي إلى جعْل العراق أرضاً رخوة للصراع وتصفية الحسابات التي راكمت من هيمنة الأحزاب التقليدية الفاسدة على زمام السلطة».