قبل شهرٍ تقريباً، بلغ معدّل العمليات ضدّ قوّات الاحتلال الأميركي و«التحالف الدولي» بقيادة واشنطن، إلى جانب مقارّ البعثات الدبلوماسية، واحدة يومياً. سارعت الولايات المتحدة (ومعها دول أوروبية)، إلى التلويح بإغلاق سفارتها في العاصمة بغداد، والتهديد بمواجهة مع فصائل المقاومة وتصفية قادتها. تفاوتت آنذاك التفسيرات للتحذيرات الأميركية، إلى أن طرأت متغيّرات على مدى الأيام الماضية أفضت في نهاية المطاف إلى «تهدئة» مرهونٍ سريانها بنتائج الانتخابات الأميركية، وجدّية واشنطن في جدولة انسحابها، و«تحديد العدد الدقيق لقواتها، ونقاط انتشارها، والمهام الموكلة إليها».
بعد الرسالة التحذيرية لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى بغداد (راجع «الأخبار»، عدد 4156)، عادت الحرارة سريعاً إلى خطوط التواصل بين الأخيرة وطهران. ووفق معلومات «الأخبار»، فنّدت حكومة مصطفى الكاظمي موقفها وفق الآتي:
1- نحن في بغداد ملتزمون بإخراج قوات الاحتلال الأميركي، والولايات المتحدة تريد ذلك أيضاً، وقد سبق أن أبلغَتنا وأبلغَتكم أنها تريد انسحاباً «لا يريق ماء وجهها».
2- أُبلغنا من جانبكم بدعم خيار الدولة، وتكريس مبدأ التعامل عبر الدوائر الرسمية. وعليه، فإن أيّ خطوة في هذا الصدد يجب أن تمرّ عبر الحكومة.
3- لبغداد خصوصيّتها التي لا تسمح لها بالتموضع في معسكرٍ بعينه. لذا، فمصلحتنا تطوير العلاقات مع الجميع.
لاحقاً، وعلى مدى الأيام الماضية، تناول النقاش تداعيات أيّ عقوبات أميركية جديدة على الاقتصاد العراقي، وتالياً على اقتصادات محور المقاومة، المستند بشكل أو بآخر إلى الحركة المالية لـ«بلاد الرافدين».

بين واشنطن وطهران
الردود الإيرانية على الموقف العراقي جاءت متناقضة. وهو تناقض يعزوه البعض إلى غياب قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، قاسم سليماني، والذي كان يمنع - بحسبهم - أيّ تباين في المواقف على اعتبار أن المواجهة القائمة تتطلّب قراراً واحداً، يتّسم بسرعة صناعته وتنفيذه. وفي المقابل، يذهب آخرون إلى أن الإيرانيين يجيدون لعبة «توزيع الأدوار»، تحت سقف التوجّه الاستراتيجي للمرشد علي خامنئي، والقاضي بإخراج القوات الأميركية من منطقة غرب آسيا، وتحديداً من العراق وأفغانستان. هكذا، تبرّأت جهات إيرانية من العمليات الأخيرة، داعمةَ مساعي الكاظمي الدبلوماسية، فيما ربطت جهات أخرى وقف العمليات بالإعلان الرسمي عن «جدولة الانسحاب».
في هذا الوقت، كان النقاش يتزخّم حول إمكانية الدخول في «تهدئة»، بدا أن بعض الدوائر الأميركية تتوقّعها، على اعتبار أن طهران لا تريد أن تمنح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فرضة للفوز بولاية ثانية. ثمّة من دافع في إيران عن خيار «التهدئة»، من منطلق أنه يتيح شراء المزيد من الوقت لدراسة توجّهات واشنطن الجديدة، خصوصاً أن «شهر الرسائل» (الذي تَكثّفت فيه العمليات ضدّ الأميركيين)، أثمر طلب واشنطن «وساطة جانبية» مع الفصائل، عن طريق الممثلة الخاصة للأمين العام لـ«الأمم المتحدة» في العراق جانين هينيس بلاسخارت، التي التقت رئيس أركان «هيئة الحشد الشعبي» أبو فدك المحمداوي.
الاستعدادات جارية لجولة ثانية خصوصاً إذا استمرّت حال المراوحة


أبلغت بلاسخارت المحمداوي أن واشنطن «تريد وقف القصف، ووضع حدٍّ لتهديد سفارتها»، والاستفسار أيضاً عن «وضع الحشد، ومدى ابتعاده عن خطّ المرجعية الدينية في النجف». ردّ المحمداوي جاء كالتالي:
1- نحن مؤسسة عسكرية مرتبطة بالقائد العام للقوات المسلّحة، ونأتمر بأوامره.
2- وضعنا الحالي كما السابق، نحترم أوامر المرجعية وتوجيهاتها، و«الحشد» تَشكّل بأمرها، ولا نعتقد بأنها تريد حلّه وما شابه، وهذا «كلام فيسبوكي ليس إلّا...».
3- القصف الذي استهدف البعثات الدبلوماسية ليس من اختصاص «الحشد».
4- هناك عداوة مع الأميركيين، الذين ارتكبوا حماقة باغتيالهم «شهداء النصر»، واعترافهم بذلك.
5- من حقّ المقاومة أن تقصف وتستهدف قوّات الاحتلال الأميركي، لأن الأخيرة لم تخرج من العراق، ولم تعلن جدول انسحابها.
6- نحن كـ«هيئة» لا نعرف هؤلاء المقاومين، ولن نقحم أنفسنا في موضوع مماثل.
7- لن يكون هناك اقتحام للسفارة، وهذا أمر ملفّق من جهات سياسية معروفة.

إلى «التهدئة»
توصّلت واشنطن إلى اقتناع بأن إغلاق السفارة قرارٌ صعب التنفيذ، ويعني انتصاراً ساحقاً لطهران، فيما ازدادت الأخيرة اقتناعاً بأنه ما من بديل حالياً من الكاظمي، الذي يُخشى من أن يؤدّي تشديد الضغوط عليه إلى دفعه إلى التموضع بشكل نهائي في المعسكر الأميركي (علماً بأن الرجل يريد، بحسب ما تقول أوساطه، الحفاظ على مسافة أمان من المعسكرين، حتى لا يلقى مصير سلفَيه حيدر العبادي الذي انحاز إلى الأميركيين، أو عادل عبد المهدي الذي مال إلى الإيرانيين). وما بين الاقتناعين، وُلد الاقتناع بـ»التهدئة» التي جرى إعلانها في بيان باسم «تجمّع الفصائل»، التي لم تكشف عن هويّتها، لتصدر لاحقاً بيانات أكثر وضوحاً، كان آخرها للمسؤول الأمني لـ«كتائب حزب الله - العراق» أبو علي العسكري. وعلى ضوء تلك البيانات، يمكن إيراد ما يلي:
1- «التهدئة» المرتقبة لن تكون طويلة الأمد، بل هي مربوطة بنتائج الانتخابات الأميركية وما بعدها.
2- الانفجار واقعٌ في نهاية المطاف، ولا يمكن التكهّن بمداه، فيما ستكون المواجهة مواجهة مفتوحة وصريحة وبعيدة من الشعارات.
3- الاستعدادات جارية لجولة ثانية (بعد أن أسفرت الأولى عن انسحاب الأميركيين من نقاط مُحدّدة، علماً بأنه لم تُستخدم فيها الأسلحة الدقيقة، لكن بعض عملياتها دلّت على تطوّر نوعي في التكتيك والأسلوب، وهذا ما أوجع واشنطن)، خصوصاً إذا استمرّت حال المراوحة: لا التزام أميركياً، وفي الوقت نفسه تلكّؤ حكومي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا