يتجدّد الحديث دورياً، ومع كلّ حدث مفصلي، عن افتقاد أميركا، لاسيما في ظلّ إدارتها الحالية، لاستراتيجية فعلية، أو على أقلّ تقدير، لإطار واضح لسياستها الخارجية. سِمةُ هذه الإدارة، كما ستُذكر في وقت ما، أنها استطاعت أن تكشف للعالم عن الوجه الحقيقي لنظامٍ لا تنفكّ هيمنته تتقلّص في مرحلة تاريخية لا يزال من المبكر توصيفها. معظم القراءات الواردة في هذا السياق تجمع على «حتمية» انحسار النفوذ الأميركي في العالم.
من وجهة نظر ماكغورك، ما فعله ترامب هو أنه وضع سياسة خارجية غير متسقة (عن الويب)

جو بايدن، المرشّح الأمثل للحزب الديموقراطي، يعتقد جازماً بأن النكسة بدأت منذ غادر هو ورئيسه باراك أوباما البيت الأبيض. كتب بايدن مانيفستو السياسة الخارجية التي سيتّبعها في ما لو انتُخب رئيساً. بايدن هذا، الذي لم يجد الديموقراطيون أفضل منه ليمثّل مؤسسات الحزب، حمّل ترامب مسؤولية «إهدار نفوذنا» في العالم. لكنه هو أيضاً يريد إنهاء الحروب التي لا تنتهي. أليس ذلك ما يقوله ترامب منذ ثلاث سنوات؟ وقبله أوباما؟ «إذا أصبحتُ رئيساً»، ستكون مهمة إعادة «الغالبية العظمى» من الجنود الأميركيين الموجودين في أفغانستان والمنطقة إلى الوطن من أولى المهمات التي «سأضطلع بها». ستصبح المهمّة في عهد بايدن «محدّدة بدقة»: هزيمة «القاعدة» و«داعش». لكن التركيز سيبقى، أولاً وأخيراً، منصبّاً على «مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم»، بدلاً من خوض صراعات «تستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلّب اهتمامنا».
صلب الموضوع: لتكون صوتاً ذا مصداقية، لا يمكنك التخلّي عن صفقات سبقَ لك أن تفاوضت عليها. على رغم أن لا «أوهامَ» تنتاب بايدن في شأن «النظام الإيراني الذي شارك في سلوك مزعزع للاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط»، لكن هناك طريقة ذكية لمواجهة «التهديد» الذي تمثّله إيران على مصالحنا. اغتيال قائد «قوة القدس» الإيرانية، قاسم سليماني، ليس واحداً من أدوات المواجهة تلك، كونه أثار احتمال اندلاع دورة تصعيد جديدة في المنطقة، ما دفع طهران إلى التخلّي عن التزاماتها النووية بموجب الاتفاق. أما إذا عادت إلى قواعد الامتثال الصارمة، «فسوف أنضمّ إلى الاتفاق وأستخدم الدبلوماسية مع حلفائنا لتعزيزه وتوسيع نطاقه».

تحديد الأولويات
بُعيد تولّيه منصب الرئاسة، جَمع دوايت أيزنهاور كبار مستشاريه في مقصورة التشمّس الاصطناعي في البيت الأبيض لمناقشة السياسة الأميركية تجاه الاتحاد السوفياتي. وزير الخارجية المتشدِّد، جون فوستر دالاس، الذي كان ناقداً صريحاً لسياسة الاحتواء التي اتبعها هاري ترومان، دعا إلى سياسة أكثر تشدّداً تسعى بمقتضاها الولايات المتحدة إلى «دحر» النفوذ السوفياتي عبر أوروبا وآسيا. بدلاً من حلّ هذا النقاش، قرّر أيزنهاور الاستعانة بخبراء حكوميين لتطوير ثلاث استراتيجيات وطنية. جورج كينان، الذي صاغ مبادئ سياسة «الاحتواء» وعُرف لاحقاً بـ«مهندس» الحرب الباردة، عاد للدفاع عن سياسته. بعد شهرين، جلس الرئيس الأميركي، وعلى مدى يوم كامل، للاستماع إلى المقترحات، وأيّد أخيراً سياسات ترومان، في ما بات يُعرف باسم «Project Solarium» الذي حدّد معالم السياسة الخارجية للولايات المتحدة للسنوات الـ35 التي تلَت (لغاية انهيار الاتحاد السوفياتي)، كما ساعد في «تجنُّب» اشتباك عسكري مباشر بين واشنطن وموسكو.
بايدن: التركيز سيبقى منصبّاً على «مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم»


ذكّر بمقتطفات من تلك الحقبة، بريت ماكغورك، المبعوث الأميركي السابق لـ«التحالف الدولي»، في مقالة طويلة في «فورين أفيرز». من وجهة نظر ماكغورك، ما فعله دونالد ترامب هو أنه وضع سياسة خارجية غير متسقة، وذات أهداف لا يمكن التوفيق بينها. هكذا، يجري تحديد أهداف الحدّ الأقصى من دون التفكير في ما هو مطلوب لتحقيقها. وليس ثمة شيء معبّر عن عدم التماسك هذا أكثر من السياسة الأميركية تجاه إيران. في 18 كانون الثاني/ ديسمبر 2017، وقّع ترامب وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأميركي، تلتها بعد شهر واحد استراتيجية الدفاع الوطني. تحدِّد هذه الوثائق أولويات المصالح الأميركية، وتوجّه الإدارات والوكالات الأميركية إلى أن تحذو حذوها. هي أكدت ضرورة «منافسة القوى العظمى» الجديدة (روسيا والصين)، واعتبار آسيا المنطقة ذات الأولوية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أي إعادة توازن الأولويات الأميركية بعد عقدين من الالتزام المفرط تجاه الشرق الأوسط.
هذا في السياقات المعلنة. لكن، منذ انسحابه من الاتفاق النووي، سعى ترامب إلى تحقيق أيّ اختراق يمثل له إنجازاً يمكن تسويقه داخلياً. قال إن الهدف هو ضمان عدم قدرة إيران على إنتاج سلاح نووي، ثم قال مستشاره للأمن القومي إن الهدف كان تغيير النظام. ثم جاء وزير الخارجية ليذيع 12 مطلباً، من بينها: أن تتخلّى إيران عن برنامجيها النووي والصاروخي، وأن تنهي دعمها لمجموعاتها، وأن تسحب ميليشياتها مِن العراق وسوريا. يعتقد عدد قليل من الخبراء، وفق ماكغورك، أن تلك الشروط لا تُنفّذ في غياب استراتيجية واضحة لتغيير النظام. لا أهداف نهائية حين يتعلّق الأمر بالسياسة تجاه إيران. الرهان على أن سياسة «الضغوط القصوى» ستُجبر إيران إمّا على العودة إلى طاولة المفاوضات أو الانهيار كلياً، فشل. في الوقت ذاته، لم تنظر الإدارة جدّياً في فرضية مخالفة، ما «اضطرها» للانتقال إلى تصعيد من نوع آخر: اغتيال سليماني. ردّت طهران بتوحيد قبضتها داخلياً. وعلى الرغم من أنها قد لا تسعى إلى استفزاز واشنطن في مواجهة مباشرة، وفق ماكغورك، إلا أنها ستواصل على الأرجح هجمات ضدّ المصالح الأميركية يمكن التملّص منها، بالتوازي مع تكثيف ضغوطها لإخراج قوات الاحتلال الأميركي من العراق.
خلاصة ماكغورك: يمكن إدارة ترامب أن تستجيب لهذه الظروف الجديدة بإعلانها أن الشرق الأوسط هو الأولوية الأولى، وأن تتخذ مبادرات لتعزيز موقعها العسكري والدبلوماسي في العراق.