من يُرِد جمع روايات العراقيين عن أحوالهم، سيجد فصولاً متوالية عن إيران. سيتحدث البعض عن دعم إيران لكتل شعبية عراقية واسعة في مواجهة الغزو الأميركي، ثم في مواجهة دولة التكفير والوحشية. وسيتحدث آخرون عن دور إيراني مباشر جنّب الأكراد خطر التدمير في مراحل كثيرة. وكذلك عن دور إيراني في إعادة بناء بعض المؤسسات العامة العراقية، بالإضافة الى دور مغيّب لإيران في احتضان مئات الألوف من العراقيين الذين هربوا من بطش النظام السابق.لكن كل هذه الفصول لن تطوي صفحة الفصول الأخرى، التي تجعل إيران خصماً أو منافساً أو عدواً بحسب كل فريق يرى في إيران تهديداً لمستقبل العراق. وبين هؤلاء، من يوجد ليس في مقاعد المعارضين أو المنفيين من جنّة الحكم في بغداد، بل أيضاً بين القوى النافذة. والحديث، هنا، يشمل الجميع، سنّة وشيعة وعرباً وكرداً، إسلاميين وعلمانيين وملحدين وقوميين عرباً.
عراقيون كثر لا يهتمون للصورة التي ترتسم عنهم عند الخارج القريب أو البعيد، وخصوصاً تلك التي تميّزهم في المبالغات أو تحريف الوقائع لتناسب مصالحهم. وهؤلاء، جلّهم من المتنفّذين الساعين الى مكاسب في الحكم، وحتى لا يختلط الأمر على الناس، فهم يشبهون القوى والشخصيات اللبنانية التي كانت تحمّل سوريا مسؤولية كل خراب أصاب لبنان. وعندما خرجت سوريا (أو أخرجت) حافظوا على مواقعهم في السلطة، وزادوا من حدّة عصبيّتهم الطائفية والمذهبية والمناطقية. وسرقوا منذ عام 2005 أكثر مما سرقوه خلال الوجود السوري. لكنهم لم يتوقفوا عن تحميل سوريا مسؤولية الخراب القائم. وحظّ هؤلاء في أنهم نجحوا في استقطاب قواعد شعبية كبيرة، تصدّق ما يقولون... لكن هذه القوى لا تزال كما هي، في علاقتها الدونية مع الغرب، ومع عرب أميركا أيضاً. وها هي السعودية وقد تحولت إلى مصدر إلهام، لا لسياسيين وإعلاميين فقط، بل حتى لأدباء وفنانين وفنانات أيضاً!
والذين يحمّلون إيران مسؤولية الوضع في العراق اليوم، يرفضون الاستفادة من درس لبنان، ويعاندون إدارة حوار عراقي ــــ إيراني حقيقي، ويذهبون الى طهران للاستقواء بها على خصومهم من أبناء جلدتهم، وإذا تمنّعت إيران، عاد هؤلاء الى بغداد وهم ينسبون إليها كل الآثام وعمل الحرام. ومتى احتاجوا إليها، صاروا مهادنين ومطواعين!
اليوم، تظهر حماسة خصوم المحور الذي تقوده إيران للفوضى العراقية أن طهران هي الخاسر الأكبر من أي انهيار للوضع في بغداد. هذا يعني، في المقابل، أن إيران صاحبة مصلحة في استقرار الحكم في العراق، وصاحبة مصلحة في قيام توافق سياسي عراقي داخلي يجنّب العراقيين ويلات الحروب الأهلية، ويمنع على الولايات المتحدة وحلفائها التأثير والهيمنة وسرقة المقدرات. لكن المعادلة لا تستقيم على هذا النحو.
ذات مرة، كتب الراحل جوزيف سماحة عن ضرورة «التوزيع العادل للمسؤوليات عن الأزمة في لبنان بين السوريين واللبنانيين». وهو واقع حال العراق مع إيران اليوم.
ستكون إيران أكثر المتضررين من الفوضى، وهي لذلك تراقب ما يحصل بدقة بالغة


لإيران حساباتها ومصالحها الاستراتيجية. وهي لا تتوانى في الدفاع عنها، وتسعى الى تحصيلها كلما أتيح لها ذلك. ولإيران تصورها الخاص لمستقبل هذا الجزء من العالم، وهي تستند، أولاً وأخيراً، الى قوتها الذاتية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وبرغم كل الجهود التي بذلتها إيران خلال أربعين عاماً، فهي لم تنجح في بناء هياكل سياسية من دون رغبة أهل تلك البلاد أو غيرها. ولنراقب ما يجري في لبنان واليمن وفلسطين من جهة، وما يجري في بقية دول الإقليم من جهة ثانية. وإذا كان كثيرون يرفضون الحقيقة القاسية، فإن ما يميّز تجارب حزب الله وحركة حماس والجهاد الإسلامي وأنصار الله عن تجارب بقية قوى محور المقاومة، ومنها ما هو موجود في العراق، هو أن هذه القوى تبنّت خيارات تصبّ في خدمة شعوبها التي لحقت بها وقدمت التضحيات الكبيرة ولا تزال خلف قياداتها. وإذا كان تحرير لبنان وغزة وتعاظم قدرات المقاومة وقلق العدو، هو مصلحة إيرانية، فهو بالأصل مصلحة عربية. وهي الحال عينها في اليمن، حيث لن يكون لهذا لبلد مستقبل واعد من دون حكم مستقل عن هيمنة الغرب وآل سعود.
في العراق، الصورة ليست على هذا النحو، ورغم وجود قوى وفصائل كثيرة تحاول بناء قدرات ذاتية تحاكي تجارب المقاومة في لبنان وفلسطين، إلا أن الطامّة الكبرى قائمة عند الطاقم السياسي الذي يحكم باسم الشعب العراقي وباسم هذه القوى. وهو طاقم غير مؤهل على الإطلاق لإدارة دكانة، فكيف دولة بحجم العراق؟
لكن السؤال القائم هو: هل بمقدور إيران أن تفرض على حلفائها العراقيين تجاوز الحسابات الحالية المعقدة، وخوض معركة قاسية في مواجهة الفساد وإقامة حكم حقيقي. وهل هذه مسؤولية إيرانية بالأساس. وهل يمكن العثور على أدلة حقيقية تجعل إيران مسؤولة عن الفساد والاستبداد القائم في العراق اليوم؟
إيران حاضرة اليوم بقوة في المشهد العراقي. أما مشكلتها فتقوم أساساً على قراءة للواقع العراقي تتجاهل حقائق موقع هذا البلد في العالم العربي. ومشكلة إيران أن العراقيين لا يمكن أن يبنوا دولة أساسها قوى طائفية. وهذه سوريا مثال واضح. ورغم كل مظاهر التخلف والتدهور على مستوى الدولة وبنيانها، إلا أن سوريا لا يمكن أن تحكم موحدة من قبل قوى تتبنّى عقيدة طائفية. وفي كل مرة، جنح النظام في سوريا نحو مراعاة حسابات تراعي أقليات علوية أو مسيحية أو خلافه، كانت النتيجة المزيد من الانقسام والصدام. وهي حال العراق اليوم. وهذا يعني أن على إيران الاقتناع بأنه لا يمكن شطب جزء من هوية العراق التاريخية لمجرد أن حاكماً مستبداً مرّ باسم هذا الفكر أو هذا الحزب. والهوية العربية للعراق، التي تبقيه في قلب المعركة ضد الهيمنة الأميركية ومن أجل استعادة فلسطين، تتطلب التعامل مع العراقيين على أنهم شعب موحد، مهما برزت الانقسامات بين أهله. ومن واجب إيران التوقف، ولمرة نهائية، عن مراعاة قوى طائفية لم تأت للبلاد إلا بالقهر والتراجع. وها هي تهدد الدولة المنهكة بمزيد من التفتت.
ستكون إيران أكثر المتضررين من الفوضى. وهي، لذلك، تراقب ما يحصل بدقة تفوق أهل البلد نفسه. لكنها ليست قادرة الآن على التدخل كما يفترض كثيرون. هي متأكدة من الدور الأمني الذي تقوم به الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية، الى جانب دور إسرائيل عند الأكراد على وجه الخصوص. لكنها تلتفت أيضاً الى دور تركيا وقطر مع العشائر العراقية أيضاً. وإيران التي تعرف مخاطر تدخلها كطرف، تراهن فعلياً على دور المرجعيّة وعلى تثبيت حكومة عادل عبد المهدي ودعمها، وعلى تحقيق توازن جدي في العملية السياسية وقيادة عملية إصلاحية شاملة وجذرية على مستوى بنية المؤسسات، وخصوصاً في مواجهة آلة الفساد التي تتحكم بمفاصل الدولة والمؤسسات كافة. وحيث يرتجل المعنيون قرارات لا تنمّ عن خبرة ومسؤولية، مثل قرار إزالة المنشآت الشعبية الذي شكّل شرارة الاحتجاجات الأخيرة... وكلما توافق العراقيون في ما بينهم على إدارة أمورهم بشكل جيد، تراجع الدور الإيراني. رغبت طهران بذلك أو لم ترغب... لكن، مرة جديدة، وحتى لا يختلط الأمر على أحد، فإن العراقيين هم أساس المشكلة التي تواجه بلادهم اليوم!