مع اقتراب «ميناء مبارك» الكويتي العملاق من الاكتمال والتدشين، مع ما يعنيه ذلك من قطع الممر المائي العراقي في خور عبد الله أو التضييق عليه على نحو خطير، ومع إنشاء الكويت منصة بحرية جديدة في منطقة فيشت العيج وسط ذلك الخور، وبعد تأخر إنجاز «ميناء الفاو الكبير» في الجانب العراقي بسبب الفساد الإداري وتواطؤ الإدارات العراقية المتتالية، ووصول حالة الحصار البحري الشامل على العراق نقطة اللاعودة، أقدمت بغداد على حركة استعراضية متأخرة كثيراً لرفع العتب، بتقديمها شكوى رسمية إلى مجلس الأمن على نحو شبه سري. وفيما سكتت الأوساط السياسية والإعلامية العراقية عن هذا التطور لأسباب لا تخرج أيضاً عن دائرة الفساد والتواطؤ، عَلِمَ العراقيون به من صحف الكويت التي بادرت إلى شنّ حملة إعلامية بعد الشكوى. وكان وزير النقل الأسبق، عامر عبد الجبار، قد كشف أن «فيشت العيج» ليست منصة تفريغ كما قيل، بل جزيرة اصطناعية أقيمت بعد طمر مياه وسط الخور، وتريد الكويت اعتبارها النقطة النهائية لحدودها مع العراق، حتى تقطع الممر المائي عن الأخير وتعزله عن ساحله البحري الإقليمي.إلا أن الشكوى العراقية لن تجدي عملياً في حلّ المشكلات المتوارثة بين البلدين. ذلك أن مجلس الأمن نفسه هو الذي أباح للكويت - بقراراته المجحفة - خنق العراق بحرياً، ومنحها النصف العميق من قناة خور عبد الله، فيما تُرك النصف الشرقي الضحل وغير القابل للإبحار للعراق. كذلك فإن المجلس هو نفسه الذي أعطى الكويت نصف منطقة أم قصر العراقية ومنطقة أخرى تحتوي على آبار نفطية عراقية. فكيف يمكن مجلسَ أمن تسيطر عليه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن ينصف العراق ويردّ على شكواه بعدالة ونزاهة؟ المشكلة الحقيقية لم تبدأ مع «منصة فيشت العيج» الجديدة، بل تعود أساساً إلى مجموعة القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة. والحل الجذري والعادل لهذه المشكلة لا يكون بشكوى منفردة كالتي قدمتها حكومة عادل عبد المهدي، بل في اجتراح حلّ حقيقي ومتوازن يعيد الأمور إلى نصابها والحقوق العراقية إلى أصحابها، ويضمن الأمن والاستقرار للكويت، وهذا لا يكون إلا ببناء جدار عازل على الحدود من دون إبطاء، على غرار الجدار الذي بادرت السعودية إلى بناء أجزاء منه على حدودها مع العراق.
فكرة بناء جدار عازل هي أصلاً ذات منشأ كويتي، فقد طالب بها الساسة الكويتيون المعادون لما يسمونه «الشمال الأسود»، أي العراق، وقد كرر هذا المطلب قبل أيام السياسي والإعلامي الكويتي، عايد المناع، رداً على الشكوى العراقية. والحقيقة أن بناء جدار عازل هو لمصلحة العراق أولاً، ومنقذ له من الحصار البحري. كيف ذلك؟ لقد أنفقت الكويت على «ميناء مبارك الكبير» مبالغ طائلة تصل إلى ثلاثة مليارات و250 مليون دولار حتى الآن، على رغم أنها لا تحتاج إليه إطلاقاً، فلديها موانئها الأخرى. وإذا ما علمنا أن هذا الميناء لا مستقبل له إلا بربطه سككياً بالقطارات مع القناة الجافة السككية العراقية، وأن العراق رفع التحفظ الرسمي عن الربط السككي مع الكويت في زمن وزير النقل الأسبق هادي العامري، وأن الميناء الكويتي سيقطع الممر البحري على العراق، وأن «ميناء الفاو» العراقي معرقَل بسبب إدارات ووزارات الفساد العراقية، فإن الحل الوحيد والمؤقت هو بناء جدار عازل ضخم على طول الحدود، بعرض أربعة أمتار وارتفاع سبعة أمتار، ينهي إلى الأبد التأثير الضار لـ«ميناء مبارك».
هذا أمر يدركه الكويتيون، وقد عبّر عنه النائب الكويتي السابق، وليد الطباطبائي، الذي رأى أن «مبارك» لا مستقبل له، ويجب نقله إلى مكان آخر. وقد يكون الدافع لزيارة أمير الكويت الأخيرة للعراق، تفادي قرار عراقي برفض نهائي للربط السككي مع الميناء الكويتي. إن حل الجدار الحدودي يفتح الباب واسعاً أمام استكمال بناء «الفاو» وربطه بالقناة السككية العراقية الجافة، وتنفيذ مخطط الجزيرة الصخرية فيه، بما سيضاعف نطاق الطلة البحرية العراقية ضعفين وأكثر، وبهذا تخرج بغداد من الارتهان والحصار البحري الحالي. كذلك فإن بناء الجدار يجب أن يبدأ فوراً للضغط على الكويت لوقف تجاوزاتها وحصارها البحري، ثم لمراجعة جميع القرارات المجحفة بحق العراق بعد اجتياح الإمارة سنة 1990، التي تنص على أنها ممكنة التعديل بطلب من البلدين وباتفاقهما.
بناءً على ذلك، نحن اليوم أمام سيناريوين اثنين: السيناريو الأول أن تتحرك واشنطن للضغط على الكويت لتتنازل قليلاً بخصوص خور عبد الله، وقد تطلب منها رفع «فيشت العيج» مقابل منحها الربط السككي الدائم مع العراق، فيتراجع الأخير عن الشكوى، وهذا ليس حلاً، لأن الكويت ماضية في حصارها البحري. كذلك فإنه سيكون نصراً للكويت والولايات المتحدة بكل معنى الكلمة، لأن ربط «مبارك» بالقناة الجافة السككية العراقية يعني دفناً نهائياً وتدميراً لـ«الفاو» الذي سيحلّ محلّه تلقائياً «مبارك»، ومن ثمّ ستتلاشى الطلة البحرية العراقية! السيناريو الثاني هو الذي اقترحناه، ويتلخص في البدء فوراً ببناء الجدار العازل كوسيلة للضغط على الكويت. أما بخصوص مشروع الميناء العراقي الكبير على الجزيرة الصخرية، فهو يقوم على فكرة تشييد جزيرة صخرية في الجزء العراقي من مياه الخليج العربي، ستحتوي على مدينة مساحتها 350 كيلومتراً مربعاً، تمتد داخل البحر بنحو 250 كيلومتراً مربعاً.
إن تكاليف الجزيرة الصخرية والميناء والمدينة التجارية والسياحية قربه تصل إلى ثمانية مليارات دولار كحدّ أعلى، وسيكون الميناء قادراً على تسديدها كلها خلال ستة أعوام تقريباً، وبواقع ملياري دولار في العام تقريباً. فلماذا فكر بعضهم في طرح هذا المشروع على الاستثمار الأجنبي والدولة العراقية بمواردها الهائلة قادرة على تنفيذه؟ ولماذا الإصرار على رفض التفكير في ميناء الجزيرة الصخرية؟ ولماذا لا يجري تطوير المشروع القائم والمهدَّد بميناء «مبارك» ودمجه بمشروع الجزيرة الصخرية للوصول إلى التحرر الكامل للعراق من الحصار البحري والخنق الذي تمارسه دول الجوار عليه؟ ولماذا لا يبحث العراق عن دعم دول الجوار ذات المصلحة في القناة الجافة العراقية كسوريا والأردن وتركيا؟ إن مشروع الجزيرة الصخرية لن يتأثّر بـ«مبارك»، وهو الحل العملي الوحيد بما أن الكويت وإيران غير قادرتين على خنقه، وبتنفيذه يمارس العراق سيادته على أراضيه ومياهه الإقليمية.
يبدو لي أن هناك ثلاثة أسباب مهمة، من بين أسباب أخرى، لرفض مشروع «الفاو» الكبير أو إهماله، هي:
1-رفض المشروع من قِبَل الولايات المتحدة وبريطانيا والكويت وإيران ودول الخليج، لأن هذه الدول لا تريد أن ينهض عراق قوي ومزدهر، بل تريد الإبقاء عليه ضعيفاً مضطرباً مهدداً بالتمزق الطائفي والقومي وحركات التمرد الانفصالية والأقلمة!
2-فساد النظام في العراق وتورط كبار المسؤولين فيه بالرشى الكويتية لخنق الميناء العراقي والتنازل عن خور عبد الله، وقد حدثت فضائح عدة في هذا الميدان تَورّط فيها وزراء ونوقشت علناً في مجلس النواب.
3-التنافس الضاري بين الأحزاب والكتل والعائلات السياسية الدينية المهيمنة على الحكومة ورغبة كل منها في الحصة الأدسم.
إن البديل الذي نقترحه في السيناريو الثاني كفيل بإعادة الأمور إلى نصابها، وهو حق سيادي ومشروع للعراق، وليس فيه أدنى تجاوز على الكويت أو غيرها، لأنه يقام داخل الأراضي والمياه العراقية. فإذا انصاعت قيادة إمارة الكويت إلى منطق الحق والعدل، ونقلت ميناءها إلى مكان آخر كما اقترح النائب الطباطبائي، وأعادت ما استُقطِع من أراضٍ ومياه عراقية وفق ترسيم جديد للحدود، خيراً تفعل، وإلا فليس أمام صاحب الحق، الشعب العراقي، سوى الدفاع عن نفسه ومستقبل أجياله. لكننا ندرك أن دفاعاً كهذا لا يمكن أن يديره وينجزه بنجاح حكام طائفيون فاسدون وتابعون للأجنبي. ولهذا، الأمر يبقى رهناً بالمستقبل العراقي القريب!
* كاتب عراقي