بغداد | تتكشّف، يوماً بعد يوم، المزيد من تفاصيل المعركة التي خاضها المبعوث الأميركي إلى العراق بريت ماكغورك، ومعه السفير السعودي السابق في بغداد ثامر السبهان، من أجل فرض حكومة على هوى واشنطن والرياض. تفاصيل تبيّن استخدام الرجلين، وخصوصاً السبهان، أسلوب الترهيب مع القوى والشخصيات السياسية، من دون أن يفلحا في وقف انطلاق قطار التسوية على غير ما يشتهيان.خلافاً لما أرادته واشنطن والرياض، جاءت الحصيلة النهائية لمفاوضات انتخاب الرئاسات الثلاث في العراق. وهي حصيلة جلّت، بوضوح، فشل الجانب السعودي، مُمثّلاً بوزير الدولة لشؤون الخليج (السفير السابق في العراق) ثامر السبهان، في التأثير على قوى وشخصيات سياسية كانت المملكة تَعدّها في إطار الحلفاء، وكذلك عجز ممثل الرئيس الأميركي في «التحالف الدولي»، بريت ماكغورك، عن توجيه بوصلة المفاوضات نحو بؤرة المصلحة الأميركية الكاملة.
مصدر سياسي رفيع يكشف، في حديث إلى «الأخبار»، بعضاً من تفاصيل تلك المفاوضات التي اتخذت مساراً تصاعدياً منذ منتصف آب/ أغسطس الماضي، حتى انتخاب رئيس الجمهورية برهم صالح، وتكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة الاتحادية في 2 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري. يقول المصدر إن «معركة عضّ الأصابع» امتدت لنحو أربعة أسابيع بين «تحالف الفتح» (بزعامة هادي العامري) من جهة، والمحور المدعوم أميركياً من جهة أخرى، لافتاً إلى أنها (المعركة) «بدأت فعلياً ليلة رفضت قوى عدة ــ أبرزها حزب الحل ــ بزعامة جمال الكربولي، الانضمام إلى تحالف النواة (مقتدى الصدر ــ حيدر العبادي ــ عمّار الحكيم ــ إياد علاوي)»، والذي أُعلن عنه من فندق بابل في بغداد في 19 آب/ أغسطس الماضي.
إخفاق الأميركيين والسعوديين في «اجتماع بابل» شكّل بداية خسارتهم


وفي هذا السياق، حصلت «الأخبار» على نصوص لرسائل عدّة بعث بها كل من ماكغورك والسبهان، بشكل منفصل، إلى قيادات بارزة من أجل التأثير على مواقفها. إحدى تلك الرسائل وصلت إلى هاتف الكربولي من السبهان، ونصّها: «جمال، الذهاب مع الأطراف الأخرى (العامري وحلفائه) يعني وان واي تيكت (بطاقة ذي وجهة واحدة)». ويوضح مصدر مقرب من الكربولي أن هذه الرسالة وصلت إليه تحديداً أثناء وجوده في فندق «روتانا»، في أربيل، عاصمة «إقليم كردستان»، برفقة وفد من «الفتح» ضمّ أحمد الأسدي (الناطق الرسمي)، وعدنان فيحان (عصائب أهل الحق)، وعبد الكريم الأنصاري (منظمة بدر). وكانت وسائل إعلام عراقية عدة تحدثت، يوم انعقاد «مؤتمر بابل» الذي جمع كتل تحالف «الإصلاح» (كما سُمّي لاحقاً)، عن أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته، حيدر العبادي، أرسل حينذاك طائرة فارغة إلى مطار أربيل، من أجل استقدام الكربولي والقوى «السُنيّة» المتحالفة معه وإلحاقهم بالاجتماع. وتزامن وصول الطائرة مع مكالمة تلقّاها الكربولي من ماكغورك، وامتدّت لنحو نصف ساعة هدّده فيها الأخير برفع «الدعم السعودي ــ الإماراتي عنه في حال رفضه التوجّه إلى الطائرة». وشكّل رفض «الكرابلة»، ومعهم رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ومحافظ صلاح الدين السابق أحمد الجبوري، الطلب الأميركي ــ السعودي، علامة بارزة على تراجع قدرة الرياض على التأثير في غالبية القوى «السنية»، التي كانت تُعدّ الأقرب للسعودية. وفي هذا الإطار، يوضح المصدر عينه أن «السعودية لم تكن تريد للكربولي أن يكون مع خميس الخنجر (الأمين العام لـ«مشروع العربي») لقرب الأخير من قطر، لكنها لم تفلح في ذلك».
إخفاق الأميركيين والسعوديين في إيصال «اجتماع بابل» إلى ما يريدون شكّل، على ما ظهر لاحقاً، بداية خسارتهم معركة الرئاسات الثلاث. مسار تعزّز في حادثتين: الأولى في الجلسة الاستثنائية الخاصة بمناقشة أوضاع البصرة بحضور العبادي ومجموعة وزراء (8 أيلول/ سبتمبر الماضي)، والثانية في جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب (15 أيلول/ سبتمبر الماضي)، والتي انتهت بخسارة مرشحَين يحظيان بدعم واشنطن: خالد العبيدي («ائتلاف النصر») وأسامة النجيفي («تحالف المحور الوطني»). وكشف المصدر نفسه، الذي رافق مجمل الحراك الذي سبق تسمية الرؤساء، أن الأميركيين، إثر تأكّدهم من خسارة حليفهم العبادي لرئاسة الوزراء في جلسة البصرة، ساعدوا ــ في الوقت عينه ــ على حسم خيار عادل عبد المهدي كرئيس توافقي. وأشار إلى أن تلك الجلسة (جلسة البصرة) شهدت ضغوطاً مارستها كتلة «الحكمة»، بزعامة عمار الحكيم، على «تحالف سائرون» لمنعه من الظهور في مؤتمر صحافي مشترك مع «الفتح» للمطالبة باستقالة حكومة العبادي، مضيفاً أن «الحكمة كان يخشى من أن هذا المؤتمر إذا ما حصل فإنه سيعني إعلان تحالف بين الفتح وسائرون، وبالتالي تشكيلهما الكتلة الأكبر من دون الحاجة للحكمة أو الأطراف الأخرى التي حضرت اجتماع فندق بابل». وتابع أنه «بسبب ضغط الحكمة دُفع الأسدي للاتفاق مع سائرون على عقد مؤتمرَين صحافيَين منفصلَين، يتم فيهما إبداء الموقف نفسه... وهذا ما حصل».
ويكشف أحمد الأسدي، أبرز مفاوضي «الفتح»، بدوره، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الموقف المتطابق مع سائرون في جلسة البصرة مهّد لاجتماع بين العامري و(مقتدى) الصدر في الحنانة، انتهى بالاتفاق ــ وبشكلٍ نهائي ــ على تسمية عادل عبد المهدي مرشحاً مشتركاً بين البناء والإصلاح لمنصب رئاسة الوزراء»، مضيفاً أن «جلسة انتخاب الحلبوسي شهدت تأكيداً للتفاهم على عبد المهدي، مع انسحابنا من الترشّح لمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان لمصلحة مرشح سائرون». وفي سياق متصل، تفيد مصادر أخرى، لـ«الأخبار»، بأن الاتفاق على منصب النائب الأول بين «الفتح» و«سائرون» تسبّب بـ«امتعاض» ماكغورك، الذي أيقن حينها باستحالة عزل «الفتح» عن الكتلة المعنية بتشكيل الحكومة.
وتشير المعلومات المتطابقة التي حصلت عليها «الأخبار» إلى أن تسمية عبد المهدي تمّت في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي (تاريخ اجتماع العامري ــ الصدر)، ما يعني أن منصب رئيس الوزراء، وهو الأهم وفق نظام توزيع الصلاحيات المعتمد في العراق، كان أولى خسائر ماكغورك التي تعزّزت بعدها بانتخاب الحلبوسي، ومن ثمّ بانتخاب برهم صالح رئيساً للجمهورية. وتؤكد المعلومات نفسها أن ماكغورك، الذي زار مسعود بارزاني في أربيل ثلاث مرات في فترة وجيزة، أجرى اتصالات مع صالح، مرشح الرئاسة عن «الاتحاد الوطني الكردستاني» (سابقاً)، طالباً منه الانسحاب لمصلحة فؤاد حسين، مرشح بارزاني للمنصب نفسه. وهي ضغوط استمرت حتى قبيل وقت قصير من بدء جلسة انتخاب رئيس الجمهورية الثلاثاء الماضي.