بغداد | شعرت الولايات المتحدة بخسارة جولتها الأولى في بغداد، لصالح المحور الرافض لضغوطها، لتبحث من جديد عن أوراق ضغط أخرى يمكنها النفاذ من خلالها. وفي وقت تلاشى فيه الانقسام العمودي بين محورين، لم تخرج بعد معالم اتفاق واضح بين «الفتح» و«سائرون». ومبكراً، اضطرت الإشاعات المرجعية الدينية إلى تحديد موقفها لصالح أيّ مرشح من خارج الطاقم القديم، فيما أصرّ «حزب الدعوة» في اجتماع سرّي على أن تبقى رئاسة الوزراء من حصته.انتظر جناحا «حزب الدعوة الإسلامية» في العراق الوقت «القاتل» ليُنحِّيا خلافاتهما جانباً. مبادرة متأخّرة، وربما بعد فوات الأوان، أتت عقب استشعار جناحَي حيدر العبادي ونوري المالكي أن الخسارة التي دقت أبواب بيت «الدعوة» وباتت شبه مُحقَّقة ستطال كل مَن على مركب «الحزب الحاكم»، بلا استثناءات تؤمّنها شبكة تحالفات حمائية، داخلية أو خارجية، راهن عليها البعض ما قبل الانتخابات النيابية. ليلة أول من أمس كانت عاصفةً على أقطاب «الدعوة» بعد التطورات التي أصابت مقتلاً من مستقبل رئيس الوزراء حيدر العبادي، وباتت تُهدِّد بإخراج الحزب من رئاسة الوزراء التي أمسك بها طوال السنوات الماضية، ما دفع قادة الحزب إلى التداعي لعقد اجتماع طارئ، فتقاطروا إلى منزل القيادي في «الدعوة» علي الأديب، في القادسية (بغداد)، حيث حضر الجميع، بمن فيهم العبادي والمالكي. في اجتماع القادسية، ليل الأحد ــ الاثنين، اتفق «الدعويون» على إبقاء منصب رئيس الوزراء من حصة «الدعوة»، والعمل على عدم ضياع المكسب السياسي للتنظيم. وإن بدا العبادي مصرّاً، وفق مصادر «الأخبار»، على ترشّحه لولاية ثانية، إلا أنه أكد للمجتمعين استعداده للمضي بمرشح توافقي من «الدعوة» يملك حظوظاً أكبر للنجاح، فقط في حال انسداد الأفق نهائياً أمام الولاية الثانية.
وفاجأ العبادي، أمس، محافظة البصرة بزيارة ثانية، تعهّد فيها بعدم مغادرة المحافظة قبل ضمان إنجاز الخدمات الأساسية، في محاولة للبحث عن فرصة لتجاوز الأزمة التي ارتدّت عليه في جلسة البرلمان الأخيرة. لكن مصير الولاية الثانية للعبادي بدا في الساعات الأخيرة أكثر من محسوم لغير صالح الأخير، على رغم عدم انفراط عقد كتلة «الإصلاح»، أي ائتلاف «النصر» (العبادي) و«سائرون» (التيار الصدري وحلفاؤه). التصريح الذي خرجت به المرجعية الدينية العليا (آية الله علي السيستاني)، ونُسب إلى مصدر مقرّب من المرجعية ونُشر على موقع السيستاني الإلكتروني، كان بمثابة تأكيد أن المرجعية ليست بعيدة من مسار الاتصالات السياسية، وتصويب للشائعات بشأن موقف المرجعية وشروطها لرئاسة الوزراء، إذ جاء رداً على تصريح من النائب في «سائرون»، صباح الساعدي، نسب فيه إلى المرجعية رفضاً رسمياً لخمسة أسماء، هم: حيدر العبادي، نوري المالكي، هادي العامري، فالح الفياض، طارق نجم.
حقّق المشهد السياسي الجديد تراجعاً في قوة الموقف الكردي


وفيما أكد بيان المرجعية عدم تأييدها لمرشح من طاقم المسؤولين السابقين (المُجرَّبين)، فقد جدّد التزامها عدم رفض أو تسمية مرشح، وإنما الرجوع عن مقاطعة رئيس الحكومة (كما هو حاصل الآن مع العبادي)، و«التواصل معه وتقديم النصح له فيما يتعلق بمصالح البلد»، فقط في حال اختير من بين «الوجوه الجديدة». وأكد مصدر المرجعية أن ترشيح رئيس الوزراء من صلاحيات الكتلة الأكبر بموجب الدستور، «وليس للآخرين رفض مرشحها». كلام المرجعية أتى واضحاً لجهة الضغط باتجاه اختيار «وجه جديد»، لكن في الوقت نفسه أبقى المرجعية على مسافتها المعتادة، لناحية عدم تسمية مرشح من جهة، وعدم عرقلة مرشح الكتلة الأكبر من جهة ثانية. مع ذلك، يدرك الجميع أن حديث المرجعية التي جدّدت، أمس، تأكيد ما ورد بشأن «معايير» رئيس الوزراء في خطبة الجمعة الأخيرة، وهي «الكفاءة والنزاهة والشجاعة والحزم»، فضلاً عن تفضيلها «وجهاً جديداً»، لا يمكن تجاوزه، سواء من قِبَل «الدعوة» أو «الفتح» و «سائرون»، ما سيتطلب خوض الجميع تفاوضاً صعباً للتوافق على اسم، أو مجموعة أسماء، لديها المؤهلات لاكتساب أكبر قدر من التأييد.
ووفق مصادر «الأخبار»، فإن الحديث المتزايد عن اسم المرشح لمنصب رئيس الوزراء لا يعكس حقيقة ما يدور في الاتصالات السياسية الجديدة بين أطراف كتلتَي «الإصلاح» و«البناء»، وإن كان الموقف مُرشَّحاً للتطور بشكل مفاجئ. فما يجري التفاوض عليه الآن بين هذه الأطراف، لا سيما بين «الفتح» و«سائرون»، لا يزال في مرحلة وضع برامج وأسس أو «معايير» لرئيس الوزراء الجديد والحكومة المقبلة، كمقدمة لتحالف بين هذه الأطراف. ويفرض موعد الجلسة المقبلة نفسه على الأطراف المتفاوِضة، كون الجلسة التي سيُنتخب فيها رئيس البرلمان ونائباه سيعلِن فيها الرئيس المنتخب بشكل رسمي «الكتلة الأكبر»، التي بات هناك شبه تسليم بأنها ستكون للكتلة الحائزة أكبر عدد من تواقيع النواب منفردين. ويتواصل الحوار والتفاوض بين أطراف الكتلتين، على حساب الاصطفاف الحاد السابق بين محورين لم يعد لهما وجود سياسي فعلياً، إلا أنه حتى مساء أمس لم تخرج بوادر لاتفاق واضح، وإن كان مسار التقارب الحاصل هو باتجاه البحث عن أكبر قدر من التفاهمات، خصوصاً أن لا «فيتو» لأحد على أحد، خلاف ما يشاع، وفق ما تؤكد مصادر مطلعة، ما يجعل المفاوضات مفتوحة على ولادة تحالف عريض.
في الخلاصة، يرى المتابعون لكواليس المفاوضات في بغداد، أن محور «رفض المشروع الأميركي» كسب الجولة الأولى بوجه ضغوط واشنطن، وإن كانت ثمة بوادر على عودة هذه الضغوط من بوابة أخرى وبعناوين جديدة، رغم اعتراف الأميركيين بأن عملهم تعثر. كذلك، حقق المشهد السياسي الجديد الذي خُلطت فيه الأوراق، واستعيدت الاتصالات السياسية لمصلحة «التوافق» على حساب صراع «محورين»، تراجعاً في قوة الموقف الكردي، الذي لم يعد يملك أوراق القوة نفسها لابتزاز الطرفين على الانضمام لمن يحقّق له أكبر قدر من شروطه، التي تبدأ بكركوك ولا تنتهي بمصير حصة إقليم كردستان من النفط.