اسطنبول | في كل مرة ينفّذ فيها حزب العمال الكردستاني عملية كبيرة ضد الجيش التركي، تتكاثر التقارير التي ترجح أن يكون القرار الكردي بالعملية على الأقل مدعوماً من إحدى الدول المجاورة أو البعيدة التي تريد تصفية حساباتها القديمة أو الجديدة مع أنقرة. فرضيّة يتبنّاها كتاب ومحللون كثر لأسباب عديدة، أولها طبيعة القضية الكردية وتشتتها بين 4 دول لطالما كانت العلاقات في ما بينها متنافرة ومتوترة. ثانيها أن بعض فروع الحزب الكردي (أكان الـ pkk التركي أو البيجاك الايراني أو الاتحاد الديموقراطي pyd السوري أو الأحزاب الكردية العراقية القومية) سبق لها أن تعاونت بالفعل في حقبات معينة مع أنظمة الدول الأربع بعضها ضد بعض. من هنا، جاءت عملية يوم الاربعاء الماضي، التي أوقعت 24 قتيلاً للجيش التركي في محافظة هاكاري، في عزّ مرحلة تصاعد مشاكل تركيا ـــــ العدالة والتنمية مع دول الجوار، بدءاً بسوريا مروراً بإيران وصولاً إلى إسرائيل. انطلاقاً من ذلك، كان طبيعياً أن يُكتب الكثير حول أن العملية من تنفيذ «العمال الكردستاني»، لكن القرار بتنفيذها مدعوم، إن لم يكن صادراً، من إحدى دول الجوار. عملية يوم الأربعاء التي تُعد ثاني أكبر عملية عسكرية ينفذها الحزب الكردي منذ 1999، ورابع أشرس العمليات منذ عسكرة الحركة القومية الكردية في تركيا عام 1984، لم يكن ينقصها سوى مسارعة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان إلى اتهام «مراكز قوى» (أجنبية)، لتُثار الشكوك حول احتمال تورُّط دول خارجية فيها. لكن الملاحظة نفسها التي أطلقها أردوغان، جاءت ملتبسة وحملت إشارات إلى عدم رغبة رئيس الوزراء التركي باتهام ايران ولا سوريا، بدليل أنّ الرجل ربط تورُّط هذه المراكز (الأجنبية) «الخفيّة» من ناحية دعم «العمال الكردستاني»، بأسباب تعود لرغبتها بـ«عرقلة التطور الاقتصادي الذي تشهده تركيا»، ولم يرجع ذلك إلى أسباب سياسية تتعلق بتحولات الدبلوماسية التركية. أضف إلى ذلك أنّ الترجمة الفورية لمواقف أردوغان أوحت بتحميل عواصم أوروبية المسؤولية، أكثر من طهران أو دمشق، بما أنه بعد ساعات فقط على حصول العملية، استدعى الوزير التركي لشؤون الاتحاد الأوروبي، إغمين باغيش، سفير الاتحاد الأوروبي لدى أنقرة، وأبلغه رسالة شديدة اللهجة فحواها أن تركيا لن تسمح بأن تبقى دول أوروبية معينة «في موقع المتفرج» على العمليات الدامية للحزب الكردي الذي يتمتّع بوضع شبه شرعي في هذه الدول الأوروبية، رغم أنه مُدرَج على لائحة التنظيمات الارهابية للاتحاد. غير أنّ إحدى الصحافيات اللواتي حضرنَ الاجتماع، الذي عقده أردوغان مع ممثلي وسائل الاعلام، والذي تخلله اتهام «مراكز قوى خفية» بدعم «العمال الكردستاني»، وهي ياسمين شونغار (من صحيفة طرف)، كتبت أنّ أردوغان كان يقصد سوريا بكلامه عن «مراكز القوى الخفيّة». ووفق انطباعاتها، فإنّ أنقرة تشعر بأنّ «العمّال الكردستاني يخسر من شعبيته حالياً، بالتالي فهو يتّبع سلوكاً انتحارياً بتوجيهات من القيادة السورية». وتشير شونغار إلى أنّ المسؤولين الأتراك واثقون من وجود رابط ما بين احتمال سقوط النظام السوري من جهة، وارتفاع وتيرة العمليات العسكرية لـ«العمال الكردستاني» من جهة أخرى. وتضيف أنّ الحزب الكردي حالياً يضع نفسه بتحالف وثيق مع نظام الرئيس بشار الأسد، في مقابل اصطفاف أكراد العراق إلى جانب تركيا منذ العمليات المتصاعدة أخيراً ضد المدنيين والعسكريين الأتراك. وتوضح الصحافية في «طرف» أن «العلاقة بين تركيا وأكراد العراق لم تكن يوماً جيدة إلى هذا الحدّ»، بدليل أنّ رئيس اقليم كردستان العراق مسعود البرزاني «غاضب للغاية إزاء العمال الكردستاني، ويستعد لترجمة غضبه قريباً».
على صعيد آخر، يشعر «العمال الكردستاني» بأن أخطاء السياسة الخارجية التركية «تفتح مجالاً واسعاً للمناورة أمامه»، وهو ما ورد في مقال نُشر قبل حصول العملية المذكورة على وكالة «anf»، المقربة من الحزب الكردي، وأبرز ما جاء فيه: «إن المنطقة الممتدة من ايران والعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان باتت مفتوحة عمودياً وأفقياً أمام عمليات حزب العمال الكردستاني، وترجمة هذا الوضع ستظهر قريباً جداً، يجب ألا يُنظَر إلى هذه الوضعية الجديدة على أنها تحالف مؤقت يهدف إلى إرغام تركيا على العودة عن سياساتها الخارجية، بل كتحالف استراتيجي ودائم». وعلّق الكاتب البارز في صحيفة «راديكال» سنغيرز شاندار على مضمون هذا المقال بالقول إن «ما نفهمه منه هو أنّ حزب العمال الكردستاني ارتمى في أحضان ايران وسوريا بسبب خيارات السياسة الخارجية التركية، بالتالي فإنّ ايران وجميع المناطق الخاضعة للسيطرة الايرانية، أي سوريا ولبنان، تحوّلت إلى قاعدة عمليات لحزب العمال الكردستاني ضد تركيا». وحذّر شاندار من أن هذه الاستراتيجية الجديدة التي يتبعها الحزب الكردي خاطئة جداً لسبب بسيط، وهو أنّ «المحور الايراني ـــــ السوري لن يدوم طويلاً، وسنشهد حمام دم داخل تركيا سيتسبب في حلول كارثة كبيرة على الأكراد».
لكن بعيداً عن فرضية الضوء الأخضر الاقليمي، الذي يمكن أن يكون قد سمح للحزب الكردي بتنفيذ عمليته الأخيرة، فإن وزير الخارجية الايراني علي أكبر صالحي، خلال زيارته الأخيرة إلى أنقرة والتي وُضعت في خانة طمأنة السلطات التركية إلى استمرار تحالف طهران مع أنقرة ضد «الخطر الكردي الارهابي المشترك»، تطرّق إلى موضوع لطالما حرّك أقلام الصحافيين، وهو الاعلان الخاطئ الذي أوردته وكالة أنباء الأناضول التركية الحكومية في منتصف أيلول الماضي، ويفيد بأن السلطات الايرانية اعتقلت مراد كرايلان، وهو الرجل الأقوى اليوم في «العمال الكردستاني» بعد الزعيم التاريخي للحزب، عبد الله أوجلان، المسجون. وكبرت القضية عندما خرج كرايلان بكذيب للخبر، وفي ما بعد اضطرّت الوكالة التركية الحكومية للاعتذار عن الخطأ الذي كذّبته طهران أيضاً؛ لكن بين التكذيب الكردي وانكشاف تفاصيل الخطأ الذي وقع فيه مراسل «الأناضول»، بعدما ظنّ أن الرجل المعتقل هو كرايلان، بينما الصحيح أنه كان القيادي الآخر في «الكردستاني» كرات قرا، تضخّمت القصة، ونشرت مقالات وتحليلات خلصت إلى أن السلطات الايرانية اعتقلت بالفعل كرايلان على الحدود الايرانية ـــــ التركية، غير أنها عادت لتفرج عنه بعدما «أبرمت اتفاقاً معه ينص على تصعيد الهجمات ضد الجيش التركي»، وفق عدد من التقارير الصحافية. ومنذ ذلك الوقت نُسيَت القضية، إلى حين أعاد نائب رئيس الحكومة، بولنت أرينش، المسؤول أيضاً عن وكالة الأنباء الرسمية المذكورة، التذكير بها، عندما أعلن أنه سيحقق في صحّة مجموعة من المقالات نشرها الكاتب في صحيفة «يني شفق» عبد البكير سِلفي، الذي أورد معطيات تفيد بأن ايران تساعد مقاتلي «العمال الكردستاني»، وأنها أقامت، على سبيل المثال، مستشفى ميدانياً في بلدة أورومية لمعالجة جرحى الحزب في المعارك الدائرة مع الجيش التركي. وبحسب رواية الصحافي سِلفي، فإنّ مراد كرايلان زار المستشفى المذكور في 2010، واعتقلته السلطات الايرانية، وبدل أن تسلمه إلى الأتراك تفاوضت معه. وتكمل القصة بأنّه، نتيجة تلك المفاوضات، فإنّ حزب «بيجاك»، الذي يعد بمثابة الفرع الايراني لحزب العمال الكردستاني، غادر جبال قنديل واندمج مقاتلوه في صفوف «العمال الكردستاني». وقد تجد تلك الرواية بعض الصدقية في اعتراف «العمال الكردستاني» نفسه قبل يومين، بأن 7 مقاتلين من صفوفه قُتلوا في عملية يوم الاربعاء في هاكاري، 5 منهم ايرانيون (يُعتقد أنهم كانوا أصلاً يقاتلون في حزب بيجاك) وواحد سوري وواحد فقط تركي.
وفي تعليقه على جميع هذه السيناريوهات، يرى الكاتب التركي البارز في صحيفة «صباح»، محمد ألتان، في حديث مع «الأخبار»، أنّ المهم ليس معرفة من يقف خلف «العمال الكردستاني»، بل فهم كيف يمكن إنهاء وحلّ المسألة الكردية. ويختصر ألتان الوضع على الشكل التالي: ما دامت تركيا لم تتوصّل إلى إيجاد حل جذري للمسألة، فإنها ستظل تعاني من محاولات دول خارجية لاستغلال هذا الوضع المتفجر. كلام مشابه يخلص إليه الصحافي شاندار أيضاً، عندما يجزم بأن الطريقة الوحيدة لحل المسألة هي بالتفاوض مع «العمال الكردستاني» لتأمين الظروف الملائمة لكي يسلّم أسلحته، بموازاة التفاوض السياسي مع الحزب الكردي المعترف به من تركيا، أي «السلام والديموقراطية» للاتفاق على حلول سياسية.



أوروبا وأميركا متّهمتان

بعيداً عن اتهام ايران أو سوريا بالوقوف جدياً خلف صدور قرار التصعيد العسكري الأخير لحزب العمال الكردستاني ضد الأهداف التركية، يرى عدد من الصحافيين الأتراك أن المتهم الأول بدعم «العمال الكردستاني» أو على الأقل بالتغطية على نشاطاته وتمويله، هو دول أوروبية أكثر مما هو سوريا أو ايران؛ فالكاتب أوكان مودريس أوغلو، على سبيل المثال، يرى أن هناك اتصالاً مباشراً بين قيادة حزب عبد الله أوجلان، من جهة، والسلطات البريطانية من جهة أخرى، إضافة إلى أنّ فرنسا «غير جادّة في التنسيق مع تركيا ضد الحزب الارهابي». ويضيف مودريس أوغلو أنّ ألمانيا هي «بمثابة المقرّ (الاعلامي والتمويلي) لعدد من كوادر الحزب الكردي، كما أن الولايات المتحدة لا تفعل كل ما بوسعها لمساعدة تركيا في هذا المجال».