في الوقت الذي دعت فيه منظمة «هيومن رايتس ووتش»، مطلع الشهر الماضي، الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى فتح تحقيق جنائي مع سلفه جورج بوش الابن ومسؤولين رفيعي المستوى في إدارته متّهمين بالسماح بتعذيب سجناء، تصاعد الجدل على خلفية اعتقال سرّي لمواطن صومالي في نيسان الماضي، بين إدارة أوباما ومنتقديها الذين دانوا محاكمة الشاب المتهم بصلته بـ«القاعدة» وبـ«حركة الشباب» الصومالية أمام محكمة جنائية مدنية اتحادية.وفي الوقت نفسه، كُشف عن أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إيه» تستخدم سجناً في العاصمة الصومالية مقديشو لتنفيذ أنشطة على صعيد مكافحة الإرهاب.
لقد عادت قضية الاعتقالات والسجون السريّة في عهد الرئيس الديموقراطي أوباما لتؤكد أن سياسة الاعتقال غير القانونية والمسيئة لحقوق الإنسان استمرت مع الإدارة الجديدة التي أتحفت الناخبين بشعار إقفال سجن غوانتنامو الذي يضم عدداً من عناصر تنظيمات إسلامية متهمة بممارسة أعمال إرهابية.
ورغم ما تواجهه الإدارة الحالية من اتهامات لأجهزتها الأمنية بممارسة اعتقالات غير قانونية، أصرّت «هيومن رايتس ووتش» على محاكمة العهد البائد الذي لم يترك جريمة بحق الإنسانية إلّا ارتكبها، أو دعم مرتكبيها، بدءاً بالعراق مروراً بفلسطين وأفغانستان والصومال وصولاً إلى لبنان (حرب تموز 2006).
إعادة تسليط الضوء على هذا الملف جاءت من خلال المدير التنفيذي للمنظمة الحقوقية الدولية، كينيث روث، الذي أكد أن «هناك أسباباً قوية لفتح تحقيق مع بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد والمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية جورج تينت، لسماحهم بالتعذيب وارتكاب جرائم حرب».
مسؤولية العهد الحالي عن جرائم سابقة عبّر عنها تقرير لـ«هيومن رايتس ووتش» بعنوان «للانتهاء مع التعذيب: إدارة بوش وسوء المعاملة بحق السجناء». لقد جاء في التقرير أن«إدارة أوباما لم تحترم حتى اليوم التزام فتح تحقيق في أعمال تعذيب بحق المعتقلين الذين تتحمل مسؤوليتهم الولايات المتحدة بموجب الاتفاقية ضد التعذيب».
لقد أوضحت المنظمة أن جورج بوش اعترف علناً بأنه أقرّ ممارسة الإيهام بالغرق على الأقل في حالتين، وسمح بتطبيق برامج الاعتقال السري التي نفذتها «سي آي إيه». ورأت أن ديك تشيني هو الشخص الرئيسي الذي وضع سياستي الاعتقال غير المشروع والاستجواب، وأن دونالد رامسفيلد هو الذي وافق على وسائل الاستجواب غير الشرعية هذه، وجورج تينت هو الذي سمح وأشرف على قيام موظفي «سي آي إيه» بعملية الإيهام بالغرق.
هذا غيض من فيض ممارسات الإدارة الأميركية السابقة، فما هي ممارسات الإدارة الحالية؟ لعل ذلك يتّضح من خلال تلك التهم التي وجّهت إلى مسؤول صومالي في حركة الشباب الإسلامية بالإرهاب في نيويورك، بعدما استجوب لمدة شهرين على متن سفينة حربية أميركية، ليصبح أول حالة اعتقال سرية في عهد أوباما.
البيت الأبيض حاول التهرب من توضيح كيفية الاعتقال للحديث عن أن الصومالي المعتقل أحمد عبد القادر وارسام خضع لمعاملة التزمت قوانين الحرب، رغم أنه لم يحصل حتى على استشارة محام خلال هذه الفترة التي دامت شهرين ما بين الاعتقال والمحاكمة بتهمة الإرهاب.
وفيما بدأت المشكلة مع طريقة الاعتقال، إلا أن المحاكمة كانت موضع جدل حاد بين المعسكرين المسيطرين على المشهد السياسي في الولايات المتحدة. فقد واجه قرار أوباما بمحاكمة الصومالي الذي دفع ببراءته من التهم الموجهة إليه أمام محكمة جنائية، انتقادات حادة من الجمهوريين الذين يرون أنه «مقاتل من الأعداء كان يجب أن يَمْثُل أمام محكمة عسكرية في سجن قاعدة غوانتنامو العسكرية في كوبا».
ربما كان الجديد في المعاملة التي لقيها وارسام أن طريقة معاملة إدارة الرئيس الجمهوري السابق مع المعتقلين كانت باحتجازهم ومحاكمتهم في غوانتنامو بعيداً عن الأراضي الأميركية. لكن على ما يبدو، فإن الولايات المتحدة، بعد أقل من شهرين على اغتيال زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، قد فشلت في إعادة تحديد توجهها الذي تريده «براغماتياً لا إيديولوجياً» في محاربة الإرهاب. استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب أعلنت بوضوح منذ وصول باراك أوباما إلى السلطة، تضفي «الصفة الرسمية» على التبدلات التي حصلت منذ بداية 2009، حسبما أفاد أبرز مستشاري أوباما لمكافحة الإرهاب جون برينان.
فحسب الاستراتيجية، من المفروض خفض التهديد الذي يمر أولاً بالتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على أنه «ترياق فعال» لمحاربة التطرف.
بيد أن ما أوردته مجلة «ذي نايشن» من أن وكالة الاستخبارات الأميركية تستخدم مجمعاً سرياً في الصومال إضافة إلى سجن يقع في العاصمة مقديشو لتنفيذ أنشطة على صعيد مكافحة الإرهاب، يعيد إلى الأذهان تجربة الإدارة السابقة في التعامل مع المعتقلين وملاحقة المطلوبين، ويذكّر بقضية السجون السريّة في أوروبا وما عُرف بالسجون الطائرة.
المجلة الأميركية التي ذكرت الخبر أكدت أن «سي آي إيه» تملك «مجمعاً واسعاً مغلقاً» على ساحل المحيط الهندي يضم أكثر من عشرة مبان خلف جدران حماية صلبة. وللمجمع مطاره الخاص ويحرسه جنود صوماليون، لكنّ الأميركيين يسيطرون على مداخله. وتذهب «ذي نيشن» أبعد من ذلك لتكشف عن «سجن سري» يقع تحت مقر الاستخبارات الصومالية، حيث يعتقل أشخاص يشتبه في أنهم أفراد في ميليشيا «حركة الشباب» الإسلامية المتطرفة أو على صلة بهذه المجموعة.
ووفق المصدر الذي زوّد المجلة بالمعلومات، فقد جرى اعتقال بعض السجناء في كينيا أو أمكنة أخرى، واقتيدوا إلى هذا السجن، موضحاً أن السجن يخضع رسمياً لسلطة الاستخبارات الصومالية، لكن عناصر في الاستخبارات الأميركية يقومون بعمليات الاستجواب ويدفعون رواتب للموظفين فيه، حسبما تنقل وكالة «فرانس برس».
من الواضح أن الممارسات الأميركية الحالية تُعدّ امتداداً لما كانت تفعله الإدارة الأميركية السابقة بالتعاون والتواطؤ مع دول أوروبية. لعل ذلك يعيد شريط وقائع السجون السريّة التي تورطت فيها وكالة الاستخبارات الألمانية BND، أواسط العقد الماضي. لقد تعرضت الوكالة للإساءة، بعدما ثبت تورّطها في قضية السجون السرية والطائرات التي نقلت مطلوبين لمصلحة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. قضية أعادت إلى الضوء تورّطاً سياسياً وأمنياً ألمانياً، في إطار تورط أوروبي عام، في نشاطات سرية استخبارية غير قانونية، كما وصفتها أكثر من جهة برلمانية وقانونية أوروبية.
لعل هذه الفضيحة كانت بمثابة الضربة القاضية التي وضعت وكالة الاستخبارات الألمانية في دائرة الاتهام المباشر، وخصوصاً بعد توجيه اتهامات أخرى إليها في السابق في موضوع التورط في اختطاف المواطن الألماني من أصل لبناني، خالد المصري، من مقدونيا واحتجازه في أفغانستان لمدة شهور، لاشتباه في الاسم مع مطلوب متورط في أحداث الحادي عشر من أيلول في نيويورك.
إضافة إلى ذلك، برزت حينها «طائرات الأشباح»، حيث أوردت الحكومة الألمانية قائمة تفصيلية لأكثر من 430 رحلة سرية قامت بها طائرات تابعة لـ«سي آي إيه»، نقلت خلالها سجناء إلى سجون سرية في أوروبا وخارجها، واستخدمت فيها الأجواء والمطارات الألمانية. لقد توسّعت دائرة التحقيقات في هذه القضية على مدى المنظومة الأوروبية، حين عبّر مشرعون من الاتحاد الأوروبي عن تأييدهم اتهامات بأن وكالة الاستخبارات الأميركية استجوبت أشخاصاً من دون سند قانوني يشتبه في ضلوعهم بـ«الإرهاب» على أراض أوروبية، ونقلتهم جواً إلى دول تمارس التعذيب.
هذا ما أكدته اتهامات منظمة العفو الدولية (أمنستي)، في تلك الفترة، لدول أوروبية عدة بينها أربع أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهي ألمانيا وإيطاليا والسويد وبريطانيا، بالتواطؤ مع «سي آي إيه» لنقل معتقلين محتملين إلى سجون سرية أحياناً. ووجهت «أمنستي»، في تقرير بعنوان (شركاء في الجرائم... الدور الأوروبي في البرنامج الأميركي لنقل السجناء)، أصابع الاتهام على نحو أساسي إلى كل من مقدونيا والبوسنة والهرسك وتركيا. ويقول أحد باحثي المنظمة إنه لولا مساعدة أوروبا لما كان هناك أشخاص حالياً يعانون من التعذيب في زنزانات موزعة على أنحاء العالم، متهماً بعض الدول الأوروبية بـ«تسليم أسرى إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية».
أما في ما يتعلق بمعتقل غوانتنامو القائم على جزيرة كوبية استأجرتها الولايات المتحدة منذ عقود من الحكومة الكوبية، فإن التحسن الذي تحدث عنه وزير العدل الأميركي، إيريك هولدر، بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض، من أن المعتقل «يُدار بطريقة جيدة»، لا يلغي ضرورة من ضرورات البرنامج السياسي للإدارة الحالية والمتعلقة بوعد أوباما بإقفال المعتقل نهائياً.
وزير العدل الذي أشاد بإدارة المعتقل و«التسهيلات الجيدة»، أوضح يومها أن هذا لن يقلل في أي حال من التصميم على إغلاقه. لكن إغلاق غوانتنامو لم يحصل بحسب البرنامج الذي وعد به الرئيس الديموقراطي، وسياسة السجون السرية والاعتقالات الشبيهة بالخطف غير القانوني لا تزال سارية رغم رحيل بوش ورامسفيلد وتشيني.



سجون في أوروبا

في تموز العام الماضي، أعلنت منظمة بولندية غير حكومية أنها حصلت على معلومات رسمية تفيد بأن سبع طائرات لها علاقة بوكالة الاستخبارات الأميركية حطّت خلال عامي 2002 و2003 في مطار سزيماني في شمال شرق بولندا، وأن خمساً من هذه الطائرات كانت تنقل ركاباً. ونقلت صحيفة «نيويورك تايمز» في حزيران 2008 عن شهود أن خالد الشيخ محمد، المتهم بالتخطيط لهجمات 11 أيلول 2001، استُجوب وتعرض للتعذيب في سزيماني.
وتأكيداً لهذه المعلومات، أصدر المقرر الخاص لمجلس أوروبا، السيناتور السويسري ديك مارتي، تقريراً في حزيران 2007 أفاد بوجود «ما يكفي من العناصر للتأكيد أن مراكز اعتقال سرية تعمل بإمرة سي آي إيه وجدت فعلاً في أوروبا بين عامي 2003 و2005، وخصوصاً في بولندا ورومانيا».
(الأخبار)