لندن | سيارة مسرعة يقودها بريطاني من أصول أفريقية ـــــ كاريبية تعبر شارع ميدافيل وسط لندن بعيد الإفطار بدقائق. يتجاوز السائق مجموعة سيارات عند إشارة المرور، فيطلق أحد السائقين الزمور احتجاجاً. يترجل السائق «المشاغب»، ويتجه إلى أقرب سيارة ظناً منه أن سائقها كان المحتجّ على المخالفة، ويحذره من تحطيم رأسه بالرصاص إذا ما عاود فعلته. ينتهي الحادث الذي شهدته «الأخبار» مساء أول من أمس عند ذلك الحدّ. وقع على بعد عشرات الأمتار فقط من تجمع لرجال شرطة «اسكوتلنديارد» الذين كانوا يحرسون فرعاً مصرفياً. كان رقم السيارة معروفاً، ووجه الرجل الذي بلغ العقد الرابع مكشوفاً. وللتذكير، فإن لندن من أكثر مدن العالم تغطية بوسائل الحماية الالكترونية والكاميرات التي طوّرت على مدى عقود لمقارعة الجيش الجمهوري الإيرلندي، وتنظيم «القاعدة» أخيراً.لكن كل تلك الروادع الأمنية لم تثن السائق عن التهديد بالرصاص. رسالته لم تكن بحاجة إلى تفسير: «الشرطة لن تحمي أحداً بعدما عمّت الفوضى الأحياء». الشرطة نفسها تعرضت لهجمات منظمة من مجموعات من الشبان، عندما قدمت لحراسة أحياء مثل توتنهام وبريكستون وهاكني ولويشام. سيارات الشرطة حُطمت أو أحرقت. كذلك أضرمت النيران بعدة سيارات محاذية لمبانٍ يعود عمر بعضها لمئات السنين، وتضمّ أهم المحال التجارية التي تُركت هياكل محروقة على أيدي فتية لم يبلغوا سن الاقتراع بعد.
رسالة التمرد نقلت بطرق منظمة بين شبان يقضون عادة معظم ساعات الليل يتسكعون في الأزقة. معظمهم استخدموا هواتف الـ«بلاكبيري» لحشد الجموع ولاستهداف كل ما يرونه ثميناً حتى في وضح النهار. هناك رغبة في تحطيم متاجر البضائع الفاخرة التي لا تستطيع الأم محدودة الدخل شراءها لهم. أصحابُ محال خسروا كل شيء في الأحداث، رووا أن الشرطة، التي تعاني نقصاً في الميزانية وتنوي خفض عدد أفرادها بمعدل ألفين قبل نهاية العام الجاري، كانت على بعد أمتار من متاجرهم عندما اقتحمها الشبان، ولم تفعل شيئاً لحمايتهم.
كانت بريطانيا تتمتع بأجهزة أمان اجتماعي، والعاطلون من العمل في الدولة الصناعية الرابعة في العالم ينالون حقوقاً كثيرة. هؤلاء باتوا، بحسب مواطن بريطاني قلق على مستقبله، مهددين في استقرارهم الاجتماعي بفعل التقليصات الإنفاقية. فجأة، يجدون أنفسهم عاجزين عن شراء ما اعتادوا شراءه عاماً بعد عام، وسوق العمل تزداد ضيقاً يوماً تلو آخر. يخشى البعض من أن مرتكبي هذه الأعمال ربما كانوا في غالبيتهم من «متعاطي المخدرات من الطبقات الفقيرة الذين لم يعودوا قادرين على تأمين حاجتهم الإدمانية بيسر، فلجأوا إلى أسلوب اليائسين». آخرون يبررون ما يحصل بالانقسام في تركيبة المجمتع البريطاني المتعدد الأعراق والطوائف والأديان. ذلك ان معظم المناطق التي اندلعت فيها الاضطرابات كانت تعج بالشبان الملوّنين عرقياً، لا سيما من أصول أفروكاريبية. لم تسجل الأحياء التي تعج بالهنود مثلاً احداثاً مماثلة. الأقلية من أصول أفروكاريبية تشعر بأنها تتعرض لتمييز عنصري عبّر عنه الكاتب البريطاني داركوس هاو المنتمي لهذه الأقلية بالقول في مقابلة تلفزيونية، أول من أمس، «حفيدي عمره 15 سنة، لم يعد يحصي عدد المرات التي أوقفته فيها الشرطة بدون سبب للتفتيش... أقف إلى جانب حفيدي لأنني أعرف أنه حسن التربية لكنه يتعرض للاضطهاد والتمييز على أسس عنصرية».
هذه التظاهرات وأعمال النهب لم تغب عن وسط العاصمة، حتى في شارع أكسفورد الشهير. وكذلك في حي نوتنغهيلغيت الذي تقام فيه أهم مهرجانات أوروبا كل عام وتصادف في أواخر هذا الشهر. انتقلت الحركة إلى مدن أخرى مثل برمنغهام وولتش شمالاً، حيث شارك فتية قاصرون من البيض والسود على حدّ سواء في سرقة محال تجارية، وإضرام النيران بالمباني والسيارات. شوهد بعض الأهالي يقفزون عبر السطوح للنجاة بأنفسهم وأطفالهم في حي هونسلو القريب من مطار هيثرو. المتاجر الغنية بالمواد الاستهلاكية الفاخرة كانت الأكثر عرضة للاستباحة. المشاركون في أعمال السلب كانوا يركزون على الماركات من أجهزة كمبيوتر وملابس فاخرة لتباع بعد دقائق بأدنى الأسعار. يحرقون منازل وأحياء يقطنونها غير آبهين بمصير أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم. حالة تعبر عن قطيعة تامة بين الأبناء والأهالي. قطيعة فرضها نمط العمل والعيش في مجتمع الكل يلهث فيه لتأمين الحدّ الأدنى لتسديد الفواتير، ويترك أمر الأبناء في عهدة دولة مشغولة بتمويل حروب عدوانية خاسرة.
على الطريقة التونسية، انتشرت أعمال الاحتجاج في لندن لتلف أحياء متباعدة. وإذا كانت الثورة التونسية قد حافظت على طابعها الإنساني، فإن ثورة لندن اختطفتها بسرعة تلك المجموعات الفوضوية الساخطة على الأهل قبل الدولة.
شباب يائس مهيأ لارتكاب جرائم على نمط حرائق باريس عام 2009. مجموعات صغيرة كانت تعرف ما تريده من تظاهرات سلمية خرجت في الأساس للاحتجاج على مقتل شاب برصاص الشرطة في حي توتنهام. هكذا وقعت أعنف أحداث شغب تشهدها لندن منذ ربع قرن. ما يجري في بريطانيا اليوم ليس ثورة، هو تعبير عن اخفاق الحداثة الأوروبية في تربية أجيال متحضرة، وعن فشل في محو ذهنية التفرقة العنصرية في الدولة التي فرضت استعمارها على عدد كبير من الدول. الإمبراطورية السابقة لم تنجح في تربية أبنائها ليكونوا من مستوى فقراء القاهرة، حيث تظاهر الملايين من دون أن يحرقوا أو ينهبوا شيئاً، بل سارعوا إلى إطفاء المتحف الذي أحرقه «البلطجية». في لندن، اخترق الشبان حاجز الخوف، ليس طلباً للحرية، بل انتقاماً من فشل سياسي واقتصادي واجتماعي متراكم. أحداث يُخشى أن تتكرر في العديد من المدن الأوروبية الجانحة نحو عنف فاشي.



استنفار سياسي

قطع رئيس الوزراء ديفيد كاميرون إجازته الصيفية في إيطاليا وعاد إلى لندن أمس، ليرأس اجتماعاً للجنة التخطيط لحالات الطوارئ الحكومية المعروفة باسم (كوبرا) لمناقشة الاضطرابات. وأعلن كاميرون استدعاء البرلمان من إجازته الصيفية لعقد جلسة طارئة غداً للتعامل مع ما وصفها بـ«المشاهد المقززة من أعمال الشغب في لندن وجميع أنحاء البلاد». وقال رئيس الوزراء إن حكومته «ستفعل كل ما هو ضروري لإعادة النظام إلى شوارع بريطانيا، وجعلها آمنة للناس الذين يحترمون القانون»، محذراً المتورطين من أنهم «لا يخاطرون بمجتمعاتهم فقط، بل بمستقبلهم أيضاً». وأشار كاميرون الى أنه، بالاتفاق مع السلطات الأمنية، سيرفع عديد قوات الشرطة في لندن من ستة آلاف الى 16 ألفاً. وقطع كل من نائب رئيس الوزراء نك كليغ ووزيرة الداخلية تريزا ماي ورئيس بلدية مدينة لندن بوريس جونسون وزعيم حزب العمال المحافظ إد ميليباند إجازاتهم الصيفية لمتابعة الأوضاع. وفي غضون ذلك، أعلنت الشرطة أمس أنّ رجلاً في الـ26 من عمره اصيب بالرصاص في سيارة مساء أول من أمس وتوفي متأثراً بجروحه ليكون أول قتيل لحركة الاحتجاج، فضلاً عن وصول عدد المعتقلين إلى 450 شخصاً.
(أ ف ب، يو بي آي)