أجّل رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان تكثيف ظهوره حول الحرب المستعرة مجدداً مع حزب العمال الكردستاني، كذلك تناسى الوضع السوري، وباستثناء تصريح لافت عن رغبته في زيارة قطاع غزة، راكم تصريحات هجومية إلى حد العدائية ضدّ الاتحاد الأوروبي من بوابة الجزيرة القبرصية، وكل ذلك في استباق لمعركة دبلوماسية ستكون حامية في تموز 2012، الموعد المقرر لتسلم قبرص (اليونانية العضو في الاتحاد الأوروبي) الرئاسة الدورية التي تدوم ستة أشهر لاتحاد القارة العجوز. وكان لتصريحات أردوغان من أنقرة، ومن الشق التركي للجزيرة القبرصية، في الذكرى الـ 37 لتقسيمها، وقع الصدمة، ليس في بروكسل وأثينا ونيقوسيا (اليونانية) فسحب، بل أيضاً لدى قطاعات من قبرص التركية نفسها، ممن يريدون الخلاص، أو إنهاء ملف تجزئة جزيرتهم.
وما قاله أردوغان يتضمّن شقين: الأول شعبوي، وهو ترجمة لحقيقة المشاعر الدفينة التي لا تزال كامنة في نفوس مواطني الجزءين القبرصيين، كل إزاء الطرف الآخر. أما الشق الثاني، فهو التحدث مع «الجار» القبرصي لتسمع «الكنّة» الأوروبية، بما أن الشعور العام الذي لا يزال يتملّك الأتراك هو أن الأوروبيين لن يسمحوا يوماً لتركيا بالانضمام إلى ناديهم، بالتالي فإن من حق الأتراك أيضاً مخاطبة الأوروبيين من منطلق «أننا نحن أيضاً لا نريدكم».
وأبرز ما جاء في كلام أردوغان تحديد مهلة حتى نهاية العام الجاري، وفي غضون تلك الفترة إن لم تنجح جهود توحيد الجزيرة بموجب مفاوضات رئيسي قبرص ديميتريس كريستوفياس ودرويش إروغلو ومساعي الأمم المتحدة والوسيط البريطاني، فإن الجزيرة ستبقى مقسمة على ما هي الحال عليه اليوم إلى الأبد ربما، بما أنه «لا يوجد بالنسبة إلينا نحن الأتراك دولة اسمها قبرص، بل هناك قبرص التركية وقبرص اليونانية»، و«لأننا لا يمكننا مواصلة مد يد السلام والمصالحة إلى ما لا نهاية». كأن الشراسة الموصوف بها لأردوغان لا تكفي، فجاءه الدعم من الرئيس عبد الله غول، الذي حذّر من أن أنقرة ستواصل حماية حرية واستقلال قبرص التركية، ومن وزير خارجيتهما أحمد داوود أوغلو.
كلام فهمت منه أثينا تلويحاً بإعادة الاحتلال التركي للجزيرة، على حد تعبير وزير الخارجية اليونانية ستافروس لامبرينيديس. وبتحديده مهلة نهائية بشأن مساعي توحيد قبرص، يكون أردوغان قد فعل ما لم يفعله أي مسؤول تركي منذ تقسيم عام 1974، وهو ما ينطبق على تحذيره الاتحاد الأوروبي من أن أنقرة ستقطع أي محادثات مع الاتحاد الأوروبي لستة أشهر متواصلة حين يصبح الاتحاد برئاسة قبرص اليونانية من تموز 2012 حتى كانون الثاني 2013، بما أنه، مجدداً، «لا يوجد بالنسبة إلينا بلد اسمه قبرص».
ولأنّ الأتراك كانوا ولا يزالون يتصرفون مع قبرصهم كأنها المحافظة التركية الرقم 82، فإن أردوغان سارع إلى الردّ على عدائية قبرصية يونانية كانت موصوفة بدورها، ترجمها ردّ الكنيسة الأرثوذكسية القبرصية على عرض مساعدة قيّمة أعربت السلطات القبرصية التركية عن استعدادها لتقديمها للجار القبرصي اليوناني؛ فقبرص اليونانية تعاني منذ فترة أزمة حادة في الكهرباء نتيجة لانفجار أكبر محطة لتوليد الطاقة لديها أخيراً. ونتيجة لذلك، عرض الشق التركي المساعدة، بما أنّه تخلص نهائياً منذ 4 سنوات من أزمة المياه والكهرباء معاً، بفضل محطة توليد كهرباء وضخ مياه كبيرة بنتها تركيا، فما كان من الكنيسة ومن مجموعات يونانية قومية في قبرص إلا أن ردت ببيانات وتصريحات شوفينية مفادها: «نفضّل العيش على ضوء الشموع على أن تعطينا قبرص التركية الكهرباء». كلام جرح الشعور القومي التركي المعروف، واستوجب رداً قوياً من أردوغان، خاطب فيه القبارصة اليونانيين بالقول «لا تعتبروا أن الأتراك هم أعداؤكم، لأن الأعداء يسكنون في نفوسكم»، وسط صيحات إعجاب جماهير القبارصة الأتراك طبعاً، لكن ليس جميعهم. فعلى سبيل المثال، رأى رئيس تحرير صحيفة «يني دوزن» القبرصية التركية شنت موتلوياكالي أنّ «الملاحظات الاستفزازية لأردوغان غير مقبولة». حتى إن صحيفة «حرييت دايلي نيوز» التركية نقلت عن مسؤول في إدارة قبرص التركية قوله إن «تصريحات أردوغان وصورة تركيا في قبرص سببهما الإدارة الاستعمارية التركية للجزيرة على قاعدة الدولة الأم والدولة الطفلة». وهجوم أردوغان على القبارصة اليونانيين نتيجة رفضهم المساعدة التركية يذكّر بعرض المساعدة الاقتصادية المرفوضة التي كانت أنقرة قد أعربت عن استعدادها لتقديمها لليونانيين منذ بدء الأزمة المالية الهائلة التي ضريت أثينا. في حينها، لم يردّ أردوغان على تفضيل اليونانيين الارتماء في أحضان شروط الاتحاد الأوروبي ومنطقة «اليورو» وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكنه صام وفطر أول من أمس من قبرص التركية أيضاً، حيث سخر من اليونانيين المفلسين قائلاً «لا تستغربوا إن انهار الاقتصاد في قبرص اليونانية، لأنه أصلاً على حافة الانهيار».
أردوغان لم يتفوه في كل هذه المعمعة بكلمة واحدة من دون أن يقصدها، بدليل طمأنته إلى أنه يعرف أن كلامه سيغيظ القبارصة اليونانيين. هو أردوغان نفسه الذي كسر جميع الخطوط الحمراء مع بروكسل ومع العالم، ليقول للجميع إنه لن يغفر الإهانات الأوروبية المتكررة إزاء أنقرة، وأبرزها واحدة من أغرب الوقائع في تاريخ العلاقات الدولية، أي تلك التي تتمثل بقبول قبرص اليونانية عضواً في الاتحاد الأوروبي بعد أسبوع واحد من رفض مواطنيها اقتراح كوفي أنان توحيد الجزيرة في 2004، وهو الشرط الذي كان موضوعاً من بروكسل لقبول عضوية قبرص الموحدة، ورفض عضوية قبرص التركية، رغم أن مواطنيها وافقوا على «خطة أنان» بغالبية ساحقة في حينها.