كان موعد 15 تموز تاريخاً منتظراً منذ فترة طويلة في تركيا؛ إذ سبق لزعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان أن حدّده لإعلان الإقليم الكردي المحكوم ذاتياً، إن لم تقدم الحكومة التركية على القيام بمبادرة جدية إزاء الأكراد قبل الوصول إلى ذلك التاريخ. وبدل أن يطرأ حدث إيجابي على صعيد العلاقات الكردية ـــــ التركية، حصل كل ما هو سيئ منذ انتخابات 12 حزيران حتى اليوم: تجريد خطيب دجلة، النائب المنتخب عن حزب الأكراد «السلام والديموقراطية» من فوزه الانتخابي، ورفض الإفراج عن 5 نواب أكراد آخرين من السجن، وهي الأزمة التي فشلت المساعي الحكومية في حلّها. ثمّ تصاعدت وتيرة الأزمات مع اتخاذها منحى دموياً أول من أمس، عندما سقط أكبر عدد من قتلى الجيش التركي في معركة تضاربت الأنباء في حقيقتها مع مقاتلي «العمال الكردستاني»، مع تسجيل ملاحظة رئيسية، هي أن المعركة حصلت في محافظة دياربكر، وهو أمر نادر الحصول بهذا الحجم، بما أن المعارك تجري عادةً إما في جبال قنديل الحدودية بين تركيا والعراق وإيران، أو في المحافظات الكردية الحدودية «المارقة»، كهكاري أو فان، لا في دياربكر، التي تُعَدّ نسبياً مدينة خاضعة للسيطرة الأمنية التركية. واجتمع 850 مندوباً عن «مؤتمر المجتمع الديموقراطي» الذي يتمثل فيه أحزاب الأكراد وجمعياتهم المدنية وكافة تنظيماتهم ومثقفيهم، في دياربكر لست ساعات أول من أمس، ليصدر عنهم في النهاية بيان قرأته النائبة الكردية أيصل توغلوك، وجاءت فيه إشارات إيجابية إزاء الجمهورية التركية، بما أن هذا الحكم الذاتي سيبقى تحت مظلة وحدة الأراضي التركية. وقالت توغلوك إنّ «الشعب الكردي يعلن ولادة سيادتنا الديموقراطية في إطار الحكم الذاتي الكردستاني الديموقراطي الذي ينتمي إلى وحدة الدولة التركية على قواعد التفاهم والوطن المشتركين ووحدة الأرض، والسعي إلى أن تكون أمتنا ديموقراطية». ودعا البيان «جميع الأكراد الذين يعيشون في أراضينا إلى التعريف عن أنفسهم بأنهم مواطنون في الإقليم الكردي المحكوم ديموقراطياً وذاتياً». وبرّر البيان، ولادة الحكم الذاتي الكردي بـ«الإبادة التي تمارسها الأجهزة الحكومية التركية بحق الأكراد. ورغم التغييرات (الإيجابية) السطحية، إلا أن إنكار وجودنا لا يزال ماثلاً في العمق». وشدد البيان الختامي على أن «المساعي التقسيمية بين الأكراد والأتراك لا تزال جارية، بدليل رفض إطلاق سراح نائبنا المنتخب خطيب دجلة، بالإضافة إلى الإبادة الثقافية الممارسة ضدنا وضد لغتنا وحضارتنا وتجاهُل حقوقنا كشعب». وفيما دعا البيان، المجتمع الدولي إلى الاعتراف بالحكم الذاتي الكردي المولود، جزم بأن القضية الكردية لن تعرف حلاً قبل الاعتراف بالأكراد مجموعةً خاصّة متساوية في الحقوق مع باقي المواطنين.
وفور إعلان البيان الختامي، فتح مكتب المدعي العام في دياربكر تحقيقاً في الموضوع لمعرفة ما إذا كان يتضمن مخالفة للدستور التركي، مع ترجيح تقارير صحافية بفتح دعاوى قضائية بحق المشاركين البارزين في المؤتمر.
وكان «مؤتمر المجتمع الديموقراطي» قد أعدّ وثيقة في أواخر كانون الأول 2010، تُعتبَر أكبر من دستور، وتنظّم شؤون أكراد تركيا وسوريا وإيران والعراق في إطار «حكم ذاتي ديموقراطي» لأكراد الشرق الأوسط، إحدى بنات أفكار أوجلان شخصياً تعبيراً لـ«نظريته» عن الكونفدرالية الكردية العابرة للحدود التركية ـــــ السورية ـــــ العراقية ـــــ الإيرانية. وبموجب الوثيقة، سيبقى الأكراد في الدول الموجودين فيها حالياً، على أن يكون بين مكوّناتهم المنتشرة في هذه الدول الأربعة وحدة يعبّر عنها اتحاد كونفدرالي، وبرلمانات محلية، وإدارات محلية، ولغة (كردية) خاصة، ونظام اجتماعي ـــــ اقتصادي ـــــ ثقافي (اشتراكي)، وقوّات للدفاع عن النفس في المناطق الكردية، واقتصاد مستقل، وأعلام منفصلة في إطار كونفدرالية «ستحمل الديموقراطية إلى الشرق الأوسط بكامله وحلولاً لجميع مشاكله».
وإعلان «الحكم الذاتي الديموقراطي»، أول من أمس، لا يزال مجهول النتائج من نواحي أنّه لم يوضح كيف ستكون في ظله علاقات «الإقليم» الكردي بالجمهورية، مروراً بعدم تحديده كيف سيتعاطى الأكراد مع السلطات الحكومية، وما إذا كان تأسيس الإقليم سيترجم بعصيان مدني أو لا، أو ما إذا كان ذلك سيترافق مع إطلاق عمل قوات نظامية كردية تتولى الأمن في المناطق الكردية، بالإضافة طبعاً إلى التنازل الكبير الذي تضمّنه إعلان ولادة الإقليم من ناحية حصر حدوده في أراضي الجمهورية التركية، وبالتالي تأجيل الحديث عن ارتباط هذا الإقليم بالمناطق ذات الغالبية الكردية في الدول المجاورة.
أما بالنسبة إلى مقتل 13 جندياً تركياً و7 من «العمّال الكردستاني» في غابات دياربكر، بالتزامن مع اجتماع «مؤتمر المجتمع الديموقراطي»، فإن الأنباء تضاربت حول المعركة؛ من جهة، أشارت المعلومات الرسمية إلى أن المقاتلين الأكراد نصبوا كميناً للجيش بعد معركة بالأسلحة النارية تخللها «إلقاء المتمردين قنابل أشعلت حريقاً في منطقة غابات كثيفة، ما أدى إلى احتراق الجنود الـ 13» وإصابة سبعة آخرين بجروح، على حد إعلان رئاسة أركان الجيش. أما وكالة أنباء الفرات الموالية للأكراد، فقد كذّبت الرواية الرسمية بتقرير أكد أن طائرة حربية تركية استهدفت المقاتلين في غارة جوية أدت أيضاً إلى مقتل الجنود الذين كانوا مرابطين في منطقة الغابات.