ما ضرب الأرخبيل الياباني ليس مجرد زلزال أعقبه تسونامي سبب انزلاق الأرخبيل مسافة ٢،٤ متر غرباً، وأزاح محور الكرة الأرضية ١٠ سنتيمترات، فقد أنزل ببلاد الشمس الساطعة أيضاً كارثة نووية من غير المعروف حتى اليوم انعكاساتها على بقية العالم.مجموعة الكوارث هذه جمعها رئيس الوزراء، ناوتو كان، بتوصيفٍ واحدٍ هو «كارثة وطنية غير مسبوقة»، مشدداً على أن «اليابان ستتجاوز هذه المحنة».
وتأتي تصريحات ناوتو بعدما بدأت الانتقادات تتصاعد على «طريقة إدارته لسلسلة الكوارث».
فقد انتقدت وسائل الإعلام على شبكة الإنترنت، التي حلت محل الاتصالات الهاتفية للتواصل مع مناطق الشمال، «طريقة إدارة المعلومات ونشرها». وكتبت صحيفة «يومي أوري شينبون» أن الحكومة «تأخرت ٥ ساعات قبل البدء بتقديم معلومات». أما صحيفة «أساهي شينبون»، فانتقدت البطء في «توسيع دائرة إجلاء السكان القاطنين حول مفاعل فوكوشيما». ورغم صعوبة الظروف، شددت الصحافة اليابانية على أن من واجب الحكومة «أن تكون مسؤولة عن أمن السكان وتستعد لأسوأ السيناريوات».
والواقع أن ما تبثه المواقع من انتقادات يعكس «الخطر النووي الجديد» المتولد من الزلزال والتسونامي، وخصوصاً بعد اعتراف مسؤولين بإمكان انفجار مفاعل ثان في محطة فوكوشيما النووية لتوليد الكهرباء نتيجة توقف تغذية قلب المفاعل بالمياة لتبريده، ما يقود إلى ارتفاع ضغط البخار بسبب تراكم الهيدروجين، وبالتالي إلى انفجاره. وقالت مصادر حكومية إن الخوف من بدء عملية «انصهار قضبان الوقود النووي بسبب ارتفاع الحرارة» هو حقيقي، إذ إن قلب المفاعل الذي من المفترض أن يبقى مغموراً بالمياه أصبح خارجها بنسبة ٣ أمتار في المفاعلين ١ و٣، ما يمكن أن يقود إلى انفجارهما. إلا أن ناطقاً باسم شركة «طوكيو إلكتريك باور» (تيبكو)، صاحبة المحطة، أوضح أن الفرق تعمل على «تخفيف ضغط البخار وتوفير نظام تبريد جديد عبر ضخ مياه البحر إلى قلب المفاعل»، من دون أن ينفي أن «نسبة مستويات الإشعاعات تجاوزت الحدود المسموح بها قانوناً».
الحكومة أعلنت أن «خطر الإشعاع النووي بلغ مقياس ٤ من ٧»، وسيبقى هكذا ما دام قلب المفاعل لم ينفجر. ووصف خبراء ذرة أميركيون استخدام مياه البحر لتبريد المفاعل النووي كما يفعل اليابانيون بـ«عمل يائس» يشير إلى احتمال حصول كارثة بحجم «تشرنوبيل».
وأجلت السلطات ما يزيد على ٢٢٠ ألف شخص من القاطنين في دائرة الإشعاع، (على مسافة ٢٠ كيلومتراً حول المحطة الأولى و١٢ كيلومتراً حول المحطة الثانية). إلا أن مصادر يابانية تحدثت لـ«الأخبار» عن إمكان «توسيع الدائرة ليصبح شعاعها ٤٠ كيلومتراً». وقد دب الهلع والخوف في نفوس أهالي فوكوشيما (٨٠ كيلومتراً غربي المحطة). ورغم نداءات السلطات بعدم تخزين المواد الأولية، إلا أن الأهالي تدفقوا على المحال التجارية لشراء المعلبات وغيرها. وقد وصل الهلع والخوف إلى سكان طوكيو التي تبعد ٢٨٠ كيلومتراً جنوباً عن قلب الكارثة، لكنهم حافظوا في الوقت نفسه على برودة أعصابهم، وقد تولى متطوعون العمل على توجيه من لا سبيل له للعودة إلى منزله في الشمال، أو نحو مراكز تجمع في مواقف للسيارات ومحطات قطار الأنفاق.
وبدأ بعض أهالي طوكيو بارتداء سترات وأقنعة طبية خشية وصول الإشعاعات إذا تغيرت وجهة الرياح التي تهب منذ يومين من الغرب، وهي تقذف البخار المتصاعد المحمل بالإشعاعات (الخفيفة حتى الآن) نحو المحيط الهادئ، فيما بدأ آخرون بالتوجه نحو الجنوب بعيداً عن العاصمة.
«الخوف من النووي» له «طعم مختلف في اليابان»، كما يقول أحد أساتذة تاريخ اليابان الرفيعي المستوى في فرنسا، ميشال فيه، باعتباره البلد الوحيد الذي «ذاق طعم القنبلة النووية مرتين». ووسط هذا الخوف، تتضاعف عمليات الإنقاذ يومياً، وقد جندت لها الحكومة ١٠٠ ألف عسكري و٢٠٠ طائرة و٦٠ طوافة وعشرات السفن الخفيفة، فيما بدأت فرق الإنقاذ من كل أرجاء المعمورة بالوصول لمساعدة الجيش الياباني، منها حاملة الطائرات الأميركية «رونالد ريغان».
حتى أمس، أعلنت السلطات وقوع ١٨٧٠ ضحية وفقدان عدد مماثل، إلا أن بعض المصادر الصحافية أشارت إلى أن عدد الضحايا قد يتجاوز 20 ألفاً. وقال أحد المقيمين على حدود مقاطعة مياغي حيث ضرب الزلزال والتسونامي إن مدينة «كما إيتشي» التي يبلغ تعدادها ٤٠ ألف نسمة اختفت خلال ثلاث دقائق بسبب المد البحري العملاق، بينما لم يبق أي أثر لمرفأ ساميريكو الذي كان يقطنه نحو ١٧ ألف نسمة، لا يزال ١٠ آلاف منهم مفقودين. وتستمر فرق الإنقاذ في سحب جثث من الشواطئ.
وإلى جانب الخوف من الإشعاعات النووية، تستعد الحكومة لمواجهة نقص حاد في الطاقة الكهربائية نتيجة إقفال عدد من المفاعلات النووية. ووجه وزير الصناعة بانري كايدا نداءً للاقتصاد في استخدام الكهرباء في الشركات والمنازل، وخفض الاستهلاك في محاولة لامتصاص النقص. ولمّح إلى إمكان إجراء تقنين دوري في المناطق.
قد يستطيع اليابانيون تحمل وزر انقطاع الكهرباء لساعات، إلا أن مسألة نقص الطاقة الكهربائية ستكون لها انعكاسات على الاقتصاد بنحو كبير، وخصوصاً في قطاع المواصلات الذي يوفر ٨٦ في المئة من مواصلات اليابان من مترو الأنفاق إلى القطارات بين المدن والمناطق التي تنقل العمال والموظفين بين مراكز السكن والعمل. كذلك إن قسماً لا بأس به من السيارات باتت «تشحن كهربائياً في المنزل» أو في محطات مخصصة. أضف إلى ذلك أن المصانع ستضطر إلى العمل بوتيرة بطيئة، ما يمكن أن يؤثر على إنتاجية الاقتصاد الياباني.
ويرى العاملون في المجالات الاستثمارية أن الأسهم اليابانية يمكن أن تشهد انخفاضاً حاداً في البورصة بسبب «هروب المستثمرين»، فيما ستشهد قيمة الين وسندات الدولة اليابانية ارتفاعاً حاداً بسبب طلب السلطات المالية المنتظر لتمويل عمليات إعادة التأهيل والتعمير، التي ذكرت شركة «إير وورلدوايد»، المتخصصة في تقويم مخاطر الكوارث، أنها تقدر بين ١٤،٥ و٣٤،٦ مليار دولار، فيما أشار بعض المعلقين اليابانيين إلى أن التكاليف يمكن أن تكون بحدود ١٠٠ مليار دولار.
ويبدو أن المشلكة الأكبر التي قد تتركها هذه الكارثة، والتي بدأت ملامحها تظهر في معظم عواصم الدول الصناعية، هي تراجع الثقة بالصناعة النووية، وخصوصاً أن أسعار النفط ترتفع بقوة بسبب الثورات العربية. وقد أثارت الأزمة احتجاجات مناهضة لاستخدام الطاقة النووية في أوروبا، علماً بأن محطة أونوغاوا (شمال محطة فوكوشيما) بدأت بتسريب إشعاعات بات البعض يتخوف من إمكان انفجارها.
ونددت الجمعيات الناشطة في ألمانيا وفرنسا بسياسات أوروبا وحكوماتها التي تنوي تمديد عمل المحطات النووية من دون الأخذ في الاعتبار المخاطر التي يمكن أن تتأتى جراء الكوارث الطبيعية كما حدث في الأرخبيل الياباني. ويرى عدد من الخبراء أن الحادث النووي الياباني قد يؤثر على صناعة الطاقة النووية في العالم ويعيد إثارة الجدل بشأن سلامة استخدامها. وتأتي هذه التعليقات والمخاوف لتمثّل انتكاسة كبيرة للانتعاش الذي شهدته «صناعة المفاعلات النووية»، التي كانت بعض الدول مثل فرنسا وكوريا الجنوبية تعوّل عليها كثيراً بسبب تقدم صناعاتها في هذا المجال لتتحدى ارتفاع أسعار النفط. وقد أعلنت السلطات الكورية أنها ستمد المرافئ اليابانية بكميات كبيرة من الغاز المسيل لتوفير متطلبات تسيير عدد من المرافق الحيوية.
لقد خرجت اليابان من ركام قنبلتين نوويتين مدمرتين، ما يبشر بأنها ستخرج من زلازل وتسونامي وانفجار مفاعلين بالعمل الجماعي التعاضدي والنظامي.



«تسونامي»

باتت تسونامي كلمة «معولمة»، رغم أن أصلها ياباني مكتوب بأحرف صينية. وتعني «موجات المعابر» أي دفق المياه التي تندفع بين الصخور نحو البر بسرعة تزداد كلما واجهت حواجز طبيعية أو من صنع الإنسان، تحصرها وتزيد من ضغطها وبالتالي سرعتها. وعرفت اليابان منذ قديم الزمان أهوال الطبيعة التي تركت آثاراً كبيرة على فلسفة الحياة، وانعكست على الفنون. هكذا، فإن كاتسوشيكا هوكُوساي (١٧٦٠ ـــــ ١٨٤٩) جعل من التسونامي رمزاً للوحاته. أما لوحته التي تبرز التسونامي، فتعبّر عن الرهبة التي حملها اليابانيون منذ قدم التاريخ.