بيونس آيرس | لم تشكل نتيجة الجولة الرئاسية الثانية في الأرجنتين مفاجأة على غرار مفاجآت الجولة الاولى حيث كانت الاستطلاعات تشير إلى أن المرشح اليساري دانيال سيولي هو الأوفر حظاً بين المرشحين، وأن عهد آل كيرشنر لن ينتهي بانتهاء مدة الولاية الثانية للرئيسة الحالية كريستينا فرنانديز دي كيرشنر.
كان اليسار الأرجنتيني شبه متأكد من أن مشواره قد انقطع في هذه المرحلة، خصوصاً أن المعارضة كانت قد تحضرت جيداً لهذه الانتخابات حاملة رزمة من الإصلاحات التي غازلت الأرجنتينيين وربما أنستهم أن تلك المعارضة هي المسؤولة عن انهيار البلاد في مطلع عام 2000، انهيار عجز ستة رؤساء عن السيطرة عليه حتى أتى أرنستو دي كيرشنر الذي وضع حداً لانحدار البلاد، مسيرة أكملتها أرملته كريستينا فرنانديز التي تنتهي ولايتها الثانية نهاية العام الحالي. اعترف اليسار الأرجنتيني بالهزيمة المتوقعة، خصوصاً أن الاستطلاعات هذه المرة كانت مبنية على معطيات أكثر واقعية، وأهمها أن اليسار نفسه كان يتحرك تحت رايتين متنافستين بينما كان اليمين متضامناً يقتنص الأخطاء الواحدة تلو الأخرى، وفي المحصلة كان هو الأبرع في خوض المعركة ومن ثم كسبها.
دلالات فوز اليميني ماوريسيو ماكري في رئاسة الأرجنتين الحديثة كانت لها ارتدادات عابرة للحدود الأرجنتينية، خصوصاً أنها الانتخابات الأولى التي يهزم فيها اليسار في أميركا الجنوبية منذ فوز الزعيم الراحل هوغو تشافيز برئاسة فنزويلا عام 1998، والأهم، أن اليسار الأرجنتيني كان الأكثر استرخاءً بينما كان أشقاؤه في البرازيل وفنزويلا يواجهون الصعوبات والضغوطات، لكن النتيجة في النهاية جاءت لمصلحتهم، فما الذي حدث في الأرجنتين وما هي أسباب الخسارة؟
استفاق اليسار الأرجنتيني على صدمة مرعبة ليلة الرابع والعشرين من تشرين الأول، في وقت كانت فيه المساحة الزمنية محدودة جداً لالتقاط الأنفاس، حيث إن ما يفصل بين الجولتين لا يتعدى الشهر، وقت غير كاف لإجراء تعديلات ومفاوضات وإعادة ترميم للبيت الداخلي، فيما المعارضة كانت متناسقة وجاهزة لاستكمال مشوار المفاجآت.
على الرغم من تسارع الأحداث، إلا أن جردة حساب بدأت داخل التيار اليساري منذ إعلان نتيجة الجولة الأولى، جردة أظهرت أخطاء قاتلة كانت السبب الأبرز في خروجهم من القصر الرئاسي في وقت كانت فيه كل الظروف تشير إلى أن حظوظهم عالية في استكمال مسيرة الحكم.
أما العامل الرئيسي في هزيمة اليسار بحسب مصادر حزب «العدالة» الحاكم فهو اختيار المرشح دانيال سيولي الذي اعتمد في الأساس على تأييد كيرشنر دون أن يكون في رصيده ما يضيف إلى هذه الميزة، بل على العكس، فإن إدارته لمحافظة بوينس أيريس لم تكن مشجعة وهي المحافظة التي سقطت بيد المعارضة في الجولة الأولى من الانتخابات. واقع لم يشبه الحالة البرازيلية والفنزويلية التي تجهزت بشخصيتين قويتين كديلما روسيف ونيكولاس مادورو استطاعا فيها، بالإضافة إلى استثمار رصيدي لولا دا سيلفا وهوغو تشافيز، أن يعتمدا على رصيدهما الخاص، ما جعلهما يكسبان المعركة في أسوأ ظروفها.
أما العامل الثاني، فيعود إلى الجمود الاقتصادي والنمو البطيء، أمر اتخذته المعارضة كرافعة انتخابية في وقت كانت فيه الحكومة اليسارية تغوص في نظريات الحمائية والاستعادة التدريجية للعافية الاقتصادية. وما زاد الأمور تعقيداً، الأزمة التي اجتاحت دول أميركا اللاتينية، وبالتحديد الجارة البرازيل، ما حد من التبادل التجاري وانعكاس الجمود على الأسواق الداخلية. أزمات دفعت حلفاء السياسة إلى التقاتل على المصالح الاقتصادية فجمدت بعض بنود اتفاقية «مركوسور» التي تضمن دخول منتجات الدول الأعضاء (البرازيل، الباراغواي، الأوروغواي، الأرجنتين وفنزويلا) إلى الأسواق بحرية ودون أية ضريبة.
بات اليسار اللاتيني أكثر قلقاً من انعكاس التجربة الأرجنتينية على امتداده

أما نقطة الضعف الأبرز في الأداء الاقتصادي لحكومة كيرشنر، فهي تأرجح العملة المحلية (البيسو) وانعدام التوازن بين سعر الصرف الداخلي والصرف الخارجي، حيث يصل الفرق بينهما في بعض الأوقات إلى الضعف.
أيضاً، من أبرز العوامل التي أسهمت في سقوط اليسار، شخصية الرئيس الفائز، ماوريسيو ماكري، الذي لعب على التناقضات بحرفية وذكاء، فهو لم يبرز الشخصية اليمينية الراديكالية، الأمر الذي ساعده في جذب المترددين، بل أيضاً في جذب عدد لا بأس به من مؤيدي المرشح القريب من اليسار سيرجيو ماسا.
ماكري ابتعد عن الغوص في السياسة وكرس جل حملته الانتخابية على الإصلاحات الاقتصادية والتوازن في سعر الصرف الذي يسمح ببناء الثقة واستعادة العافية التجارية، كذلك نسج علاقات ودية مع النقابات العمالية التي تعد حصن اليسار المنيع، وإذا كان للحظ من شأن في فوز ماركري فهو تحدر زوجته، جوليانا عواضة، من أصول لبنانية، مما جير عدداً كبيراً من أصوات الجالية اللبنانية والعربية خصوصاً وأنها تنتمي إلى عائلة كبيرة ونافذة في الوسطين السياسي والاقتصادي.
يفخر اليسار الأرجنتيني بأنه ردّ الوديعة شبه متعافية وأنه أجرى انتخابات نزيهة كانت نتائجها لمصلحة المعارضة، سلوك قابله الرئيس المنتخب بخطاب لين أشار فيه إلى رفضه لسياسة الانتقام بل إلى ضرورة الحوار الداخلي لنهضة الأرجنتين. خطاب أخذ في الاعتبار أن اليساريين ما زالوا يمتلكون نقاط القوة والنفوذ أهمها حصولهم على أكثرية في مجلس الشيوخ، ما يجعل التفاهم معهم أمراً حتمياً لتسيير السياسات.
في نشوة الفوز اليميني، بات اليسار اللاتيني أكثر قلقاً من انعكاس التجربة الأرجنتينية على امتداده، قلق سيكرسه أو سيبدده المشهد الفنزويلي القادم في السادس من كانون الأول حيث تتجهز المعارضة مرفقة بجرعة من المعنويات بعد الحدث الأرجنتيني لانتزاع الحكم من الجبهة اليسارية البوليفارية التي أسست حركة النهضة اللاتينية. يبقى المشهد معلقاً حتى السابع من كانون الأول حيث ستحدد الهوية القادمة لأميركا الجنوبية.