تحاول المنظمات الإرهابية ضرب الشريان الاقتصادي في البلدان التي تستهدفها كي تعرقل مسيرة التقدم والبناء، والتطور من الناحية التكنولوجية والبنية التحتية، وكذلك ضرب السياحة بإشاعة الخوف والرعب للأشخاص الذين يرغبون في التوجه إلى تلك البلدان. وهم يعلمون أن الاستقرار الأمني والسياسي أحد أهم المقومات الرئيسية للتنمية الاقتصادية؛ فمن دون الأمن لا توجد تنمية، ومن دون التنمية لا توجد الدولة القوية ذات الأسس السليمة. وعندما نتكلم عن الإرهاب، نتكلم عن الاقتصاد. هذا في المبدأ وفي ظاهر الأمور. أما في باطنها، فماذا يدور؟
أضخم الاقتصادات الدولية المهيمنة الآن تستند إلى إنتاجات القطاع الاقتصادي العسكري. هذا «القطاع الوسخ» الذي تقطر من أيدي القائمين عليه دماء البشر من رجال ونساء وأطفال، ويستمتعون بتعيين الوجوه الجميلة الحاكمة للإشراف على خلق بؤر توتر وحبك الصراعات من أجل توفير الاختراعات الفتاكة وزيادة المبيعات.
ولزيادة المعرفة وتمكينكم من الربط بين الاقتصاد والإرهاب، نورد ما يأتي:
أصدر معهد «ستوكهولم» لأبحاث السلام العالمية (سيبري) نهاية عام 2014 كتاب «التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي»، وقد أظهر الآتي:
- حجم الإنفاق العسكري سنة 2014 على السلاح في العالم وصل إلى 1748 مليار دولار.
- حجم الإنفاق في الشرق الأوسط وحده وصل إلى 150 مليار دولار في 2014. السعودية والإمارات احتلتا المرتبتين الرابعة والخامسة بعد الهند والصين وباكستان من حيث استيراد الأسلحة.
- الدول المصدرة للأسلحة: أميركا الأولى بنسبة 29%، تليها روسيا بنسبة 27%... وإسرائيل بنسبة 2%.
- أكبر 10 شركات منتجة للأسلحة في العالم هي: شركة «لوكهيد مارتن» التي تصل مبيعاتها في العام إلى 36 مليار دولار، تليها «بوينغ» ومبيعاتها 27.6 مليار، و«بي أيه إي سيستمز» 26.9 مليار، ورايثيون 22.5 مليار، و«جنرال ديناميكس» 20.5 مليار، و«نورثروب غرومان» 19.4 مليار... إلى آخر القائمة.
في هذه المصانع هناك عاملون ومهندسون وخبراء، وهناك مدفوعات يجب أن تؤمن لضمان العمل والتصنيع، فمن أين تحصّل هذه المدفوعات؟ الولايات المتحدة منذ عام 2008 تعاني أزمة اقتصادية خانقة، وأوروبا كذلك على شفير الهاوية اقتصادياً. هذه الدول تحتاج إلى تسويق منتجاتها المدمرة في الدول صاحبة الثروات والموارد، وكذلك في الدول المستهلكة، كي تبقى قادرة على تحريك العجلة الاقتصادية في العالم بما يخدم مصالحها، ولعل المنتج الأهم لذلك هو خلق البؤر الأمنية وخلق الصراعات على أراضي الغير.
هذا الحجم الهائل لهذه التجارة يغذي البؤر المشتعلة، ليس فقط بالعقود ما بين الدول، بل أيضاً يغذي تجارة تديرها شبكات مخابراتية وشركات أمنية وموظفو مصانع كبرى.
الإرهاب يسرح ويمرح اليوم والخافي أعظم، وهذا استعراض سريع لقضايا ذات علاقة:
- تقرير صادر عن الكونغرس في 2008، أكّد فقدان نحو 87 ألف قطعة سلاح أو ما يعادل ثلث الأسلحة التي تمّ شحنها لقوات الأمن الأفغانية.
- أظهرت عملية مراجعة سنة 2007 أُجريت في العراق فقدان نحو ألف رشاش من طراز AK-47، وعدد من المسدسات التي سلّمتها الولايات المتحدة إلى البلاد، لم يكن في الإمكان تقديم أيّ بيانات عنها. ويمثل هذا الرقم 30% تقريباً من جملة الأسلحة الصغيرة التي تم تقديمها إلى العراق حتى تستخدمها القوات المحلية خلال عامي 2004 و2005. وهذا النقصان لم يشمل الأسلحة الخفيفة فحسب، بل طال كذلك الأسلحة الثقيلة؛ فعقب الغزو الأميركي ــ الغربي للعراق، وتسريح الجيش، أصبحت الأسلحة تباع وتشترى في مدن العراق ومحافظاته.
- الأسلحة الليبية وتسرّبها ليست بحاجة إلى تقارير، فقد أصبحت مخازن القذافي مفتوحة أمام من هبّ ودبّ ليغرف منها ما يشاء.
- كشفت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أن البنتاغون فقد شحنة أسلحة بـ500 مليون دولار في اليمن كانت قد تبرعت بها للحكومة قبل سيطرة الحوثيين على السلطة. وتشمل الشحنة مليونين وبضعة آلاف من الطلقات، إضافة إلى مركبات عسكرية وزوارق وبنادق وطائرات مروحية ومناظير ليلية ومعدات أخرى.
- حادثة إنزال الاسلحة على مدينة عين العرب «كوباني» السورية. كانت الطائرات الأميركية تلقي السلاح من الجو، و«مصادفة» هبطت ضمن الأراضي التي يسيطر عليها «داعش».
- تزويد بعض المنظمات التي أعلن أنها معتدلة بالأسلحة، وبدورها نقلتها إلى أيدي التنظيمات غير المصنفة بالاعتدال.
بناءً على ذلك، فإن صناع أدوات الموت جاهزون لتنمية بقاء وتمدد كل ما هو أسود في المنطقة العربية، بما في ذلك علم «الدولة الإسلامية»، لأن أي تسويات سلمية ستؤدي إلى خسائر اقتصادية ضخمة ستؤثر سياسياً في مكانة القياديين في هذه الدول، وهم لم يقفوا عند ذلك، بل لجأوا إلى ضرب اقتصاد العديد من الدول التي لا تلتزم قرارات هذه الدول.
من الأمثلة على ذلك أن التغيرات المتكررة في أسعار الفائدة تشكل مصدراً إضافياً من مصادر الإرهاب الاقتصادي. أصبحت هذه الأسعار أكثر تقلباً في السنوات الأخيرة، فأثرت في عدد متزايد من البلدان، وبوجه خاص البلدان النامية. كذلك، فإن الوصول إلى أسواق الائتمان بات مقيداً ومبنياً على أسس سياسية. ويشكل عدم الاستقرار في أسعار السلع الأساسية مصدراً مهماً من مصادر الإرهاب الاقتصادي، خاصة أن عدداً كبيراً من البلدان النامية تعتمد في حصائلها أساساً على صادرات واحدة أو مجموعة قليلة من السلع الأساسية. وأسعار السلع الأساسية ليست منخفضة ومتدنية لمدة طويلة فحسب، لكنها تخضع أيضاً لتقلبات واسعة تُعرِّض أمن البلدان النامية المصدرة لهذه السلع لمخاطر كبيرة.
من هنا يمكن القول إن السبب الجذري للعنف ذي الطبيعية الاقتصادية، الظلم وعدم العدالة في توزيع الدخل وإرادات الدولة. بناءً عليه: هل ستسمح هذه الدول الكبرى بإجراء إصلاحات اقتصادية في الدول المنهكة؟ على أنظمتنا مراجعة المعطيات الاقتصادية لتجنب ظاهرة الإرهاب والقضاء عليها عن طريق إعادة النظر في البنى الاقتصادية، ووضع برامج لإصلاحها إصلاحاً شاملاً بما يعمل على اكتساب الاقتصاد الوطني حصانة مرضية، تساعد على تخطّي الصعاب ومواصلة العمل على حصر عجز الموازنة العامة، وذلك بالإجراءات الآتية:
1- إعادة تقييم الأوضاع الاقتصادية بما يهيّئ الاقتصاد الوطني وجعله قادراً على التفاعل مع المستجدات.
2- التوجه نحو بناء الأولوية لقطاع تكنولوجيا الاتصالات والشبكات، وهما عنصران أساسيان في بناء اقتصاد متطور، والتهيئة للاستثمار والتكنولوجيا الحديثة، وتنشيط عملية تشغيل العاملين.
3- وضع خطة موجّهة لتنمية الموارد البشرية والتأكيد على مسألة التدريب والإعداد المهني، وتكثيف عملية إعداد المختصين، خاصة في مجال الاتصالات والمعلوماتية وتنمية قدراتهم على استيعاب التكنولوجيا.
4- تشجيع القطاع الخاص وإبراز دوره الفعال في عملية التنمية، والقضاء على البطالة.
5- جذب رؤوس الأموال الأجنبية، وتشجيع الاستثمار ورفع كفاءة وقدرة العاملين في المجالات الفنية.
6- القضاء على الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية التي تغذي الإرهاب، وفي مقدمتها الفقر، والحد من أسباب التعصب والإرهاب.
السلاح والنفط هما الوجهان غير المرئيين لقيام الإرهاب الدولي. حاجة الدول المصنعة للسلاح إلى السيولة النقدية لضمان بقائها ودفع نفقاتها جعلت منطقتنا الصخبة وقوداً، وباتت صناعة السلاح اليوم العنصر الأساسي في لعبة الاقتصاد العالمي، فخلقوا الإرهاب وساعدوا في تنميته وتربيته حتى أصبح مارداً... وخرج المارد من قمقمه، فمن يردعه بعد اليوم؟

* كاتب وباحث لبناني