من آخر التوقعات، فإن الهجمات الدامية في فرنسا لن تغير ولن تدفع إلى تحول في الموقف الغربي من الإرهاب. نعم، تجاوز الإرهاب الحدود المرسومة له، وضرب في عمق أوروبا، لكن ذلك لا يكفي وحده لتغيير حقيقي وفعلي في الموقف.رد الفعل الفرنسي تحديداً، وفي أوروبا عموماً، سيتركز على الداخل، مع «حركات» استعراضية في الخارج. وكل ذلك مصحوباً بمزيد من تجاوز لحقوق الإنسان في الداخل الأوروبي وزيادة في الإجراءات الأمنية والتشدد، ضد كل من هو شرق أوسطي أو متحدر من الشرق الأوسط، مع زيادة في مستوى اليمينية، التي هي أصلاً تتراكم كمّاً ونوعاً في أوروبا.

اتجاه الشرق الأوسط، ليس من الصعب استشراف رد الفعل الفرنسي. ليس لفرنسا القدرة، وحدها، على فعل شيء ملموس وذي تأثير مباشر في الميدان وفي ساحات المواجهة مع الإرهاب. نعم، بمقدور الجانب الفرنسي شن هجمات جوية، وتكبير الهجمات إعلامياً وتضخيمها إلى الحد الذي تصلح معه لإشباع رغبة الانتقام لدى الجمهور الفرنسي، لكنها لن تكون كافية، ولا تصلح كجواب على تحدي الإرهاب. وضع الإرهاب في الشرق الأوسط، في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر وغيرها، معقد ومتشعب وتختلط فيه مصالح الغرب والتهديدات، جنباً إلى جنب. فبرغم الهجمات الأليمة والوحشية في باريس، فإنها (الهجمات) لا تنهي وظيفة الإرهاب في المنطقة، ولا سياسة المحافظة عليه، إلى حين تحقيق الأهداف المرسومة له والموجهة ضد الدول «المارقة» والبعيدة عن الاصطفاف في المحاور الغربية، ودفعها إلى الاستسلام.

الهجمات لن تنهي وظيفة الإرهاب في المنطقة في ضرب محور المقاومة
وإلى الآن، لا يوجد استسلام للغرب، لذلك لا توجد مصلحة لضرب الإرهاب، بالمعنى الذي يوصل إلى اجتثاثه. كانت فرنسا، أمّ الصبي، واضحة جداً منذ البداية. قبل أن تجف الدماء في الشوارع الباريسية؛ أوضحت القيادة الفرنسية أنها ستشن «حرباً لا هوادة فيها» ضد تنظيم «داعش». «داعش» بالاسم دون سواه. أي ضد جزء من الإرهاب لا أكثر. لكن مع التشديد على أن هذه الحرب ستخاض إلى جانب الحلفاء. وهذه الرسالة واضحة للجميع: معالجة الإرهاب عبر مزيد من الشيء نفسه؛ ضربات جوية تتراكم فوق ضربات جوية سابقة، أثبتت أنها غير ناجعة في معالجة التنظيمات الإرهابية.
كل هذا مع العلم بأنه لاجتثاث الإرهاب، لا يطلب من فرنسا، ولا من أي من دول «حلف شمالي الأطلسي» وفي مقدمها أميركا وحلفاؤها الإقليميون، ولا سيما السعودية وتركيا، منازلة «داعش» وبقية الجهات الإرهابية على الأرض... كل ما هو مطلوب مكان كل الاستعراضات السمجة ضد الإرهاب، هو: أوقفوا دعم الإرهاب سياسياً ومادياً ولوجستياً... وعسكرياً!
ما لم تعالج أسباب الإرهاب الرئيسية، بما يشمل معالجة الجهات الدولية والإقليمية الحاضنة والمروجة للأفكار التكفيرية، فلا علاج للإرهاب، حتى مع فرض انتصار عسكري ميداني، مفترض نظرياً. الخاسر الأكبر هم المسلمون في الدول الغربية، لأنهم إلى مزيد من التضييق على الحريات وحقوق الإنسان والإجراءات التمييزية بحقهم، بل من شأنها أن تدفع قسماً كبيراً منهم إلى التطرف، وبالتبعية إلى مزيد من العمليات الإرهابية. هذا ما يسعى إليه الإرهاب، وربما للأسف، هذا ما سيحصل عليه.
المعادلة التي تحكم الفعل الفرنسي والغربي عموماً في مواجهة الإرهاب، مركبة من عاملين اثنين: القيادة الحالية في أوروبا والغرب عموماً باتت أسيرة خياراتها. وأولوية مواجهة محور المقاومة تتغلب على أي اعتبار ومصلحة أخرى، حتى لو كان الثمن من اللحم الحي لأوروبا. وفي المدى المنظور، وضمن ميزان القوى القائم، لا تغيير ملموساً في المقاربة الغربية لقضية الإرهاب في المنطقة، برغم الهجمات الابتدائية للإرهاب في فرنسا.
العلاقات مع السعودية وغيرها، مثلاً، وهي الدول التي تحرك وتوجد وتعاظم الفكر التكفيري، أكبر بكثير من أي مصلحة غربية في منع ارتداد الإرهاب عليه، وتحديداً في المدى المنظور، ما دام هناك رهان، وإن كان نظرياً، على إمكان منع الإرهاب عبر القمع الداخلي والإجراءات الدفاعية.
بناء على ذلك، تتجه أوروبا إلى مزيد من الخيارات البديلة ضمن المسار القديم نفسه في التعامل مع الإرهاب، لكن من دون مواجهة أسبابه الحقيقية ومحركيه.