نيويورك | عاقب «ساندي» الطائش كل المتجاهلين لعلوم الفيزياء وقوانين الطبيعة. لم يكتف بالتأنيب، بل أراد أن يجعل من أميركا عبرة للكبار قبل الصغار. عبرة تقول إن صبر الطبيعة قد نفد، وإن ما أُخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة. أملاك بحرية ومجالات حيوية انتُزعت من الأنهار والبحار والمحيطات عنوة. مجالات تؤكد الأعاصير المتكررة أن الإنسان لا يملك سوى التخلي عنها، وإلا فسيكون مصيره مصير أحياء بأكملها دمّرها «ساندي» الكاريبيّ الأسمر في بلاد العم سام، وحطم ركائز التفوق التقني الأميركي.
عند إصدار الإنذار الأميركي العام الماضي حول مخاطر الإعصار «أيرين» الداهمة، مارس الأميركيون هوايتهم القديمة بزيادة الشراء لأشياء وأشياء لا يحتاج إليها المرء عادة، لكنهم اشتروها لأنهم سمعوا أنّهم في حاجة إليها. في مقدّمتها كانت زجاجات المياه البلاستيكية المعبأة. تخاطف الأميركيون في نيويورك كل المياه التي وجدوها في المحال التجارية بأيّ سعر. وعند السؤال عن سرّ التدافع، قالوا إن هناك خطراً من أن تنقطع الكهرباء ويتوقف ضخ مياه الشفة. المفارقة أن الأميركي لا يخطر بباله أنّه يستطيع ملء غالونات الماء مجاناً من حنفية الشرب النظيفة في المطبخ، طالما أن الإعصار لم يصل بعد. ومياه نيويورك تحديداً معروفة بأنها عالية النقاوة وتتمتع بطعم خفيف تحسدها عليه المدن الأوروبية، لكن الجميع كان يفعل ذلك، «فلماذا أكون مختلفاً؟».
الإنذار الأخير بشأن الإعصار «ساندي» شمل تحذيرات واضحة، بأن سرعة الرياح ستصل إلى 80 أو 90 ميلاً في الساعة، وأن منسوب مياه البحر سيرتفع بمعدل 11 قدماً، ولا سيما في الجزء السفلي من حي مانهاتن، في جزيرة ستاتان وفي جزيرة لونغ آيلاند، بالأخص الأجزاء الساحلية المنخفضة التي حُددت على الخريطة باللون الأحمر، وفي ولايات أخرى مثل نيوجرسي وكونكتكت. كانت التحذيرات واضحة من أن المياه قد تخترق حواجز المدينة وتدخل إلى شبكة قطارات الأنفاق المنخفضة وتغمرها وتعطل خطوط الملاحة للجزر وتغمر الأماكن الساحلية المنخفضة في نيوجرسي القريبة. قالوا إنّه سيكون هناك انقطاع للكهرباء والمياه، وإن الخراب والدمار سيعمان في كل اتجاه.
طلب الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بصوت حازم، أن يصغي الجميع إلى التحذيرات بدقة، وأن يخلوا المناطق المهددة والمحددة بوضوح، لكنه لم يفرض النزوح الجماعي عن تلك المناطق، رغم اقتناعه بأنها مهدّدة بنسبة تزيد على 80 في المئة. كثيرون أصغوا إلى التحذيرات وخزّنوا الأطعمة والمياه المعدنية وبطاريات المصابيح اليدوية، لكنّ كثيرين قبعوا في منازلهم على أمل أن يتجاوزوا الإعصار بحضور بضعة أفلام رعب من انتاج أميركي على شاشات التلفزة، التي يتضخم حجمها في المنازل عاماً بعد عام.
مساء الأحد، عشية حلول الإعصار «ساندي» على مدينة نيويورك، وصفت سيدة أميركية رصينة في العقد الخامس من العمر، كانت في غمرة الفرح والإثارة، شعورها لـ«الأخبار» والإعصار يقترب. قالت «مرحباً بالأعاصير. هذا شيء مثير وأترقبه بشوق». قالت ذلك والبريق يشع من عينيها توقاً إلى مشاهدة الطبيعة تمارس طيشها. سألتها «ألا تشعرين بخطر أو خوف؟»، أجابت إنها سمعت بأعاصير أخرى كثيرة، وشاهدت الزوابع العاتية تعصف بأحياء، وترفع المنازل في الهواء، ثم تلقي بحطامها بعيداً، لكنها ليست خائفة، وتشعر بأن الأمر مجرد مغامرة لا ينبغي تفويت الاستمتاع بها.
متعة ربما لا تختلف عن التسلية التي يشعر بها مشاهد أفلام المغامرات والعنف، التي تنتجها هوليوود. في الولايات الأميركية، هناك شركات لبيع رحلات رعب حقيقي حتى الموت. شركات لديها آليات ضخمة مزوّدة برادرات ووسائل رصد واتصالات مكلفة في غاية التطور. يستخدمونها لمعاكسة وتحدّي الزوابع العملاقة القادرة على رفع شاحنة ذات ست عجلات في الهواء عشرات الأمتار، وعلى خفقها مع منازل وأتربة قبل إلقائها في مكان بعيد. يغامر أميركيون بحياتهم من أجل ذلك، وربما لا يرون بُعد المعاناة الإنسانية من الموت والإصابة والتشرّد. وهذا غير مستغرب في مجتمع هو الأكثر تأثراً بالدعاية والإعلام الموجّه. مجتمع تعوّد مشاهدة الحروب الدموية على الشاشات من دون أن يدرك حقاً أن هذا يعني أنّ هناك بشراً يعانون ألماً ومعاناة وقسوة وتشرّداً وجوعاً وعطشاً وفقدان سبل العيش.
لكن في حالة الإعصار القاسي «ساندي»، صُدم السكان في ولايات نيويورك ونيوجرسي وكونكتكت. متعة الإعصار التي توقعوا مشاهدتها من أبراج المدن العالية، حرمتهم أموراً ترفيهية كانوا يعدّون وجودها أمراً مفروغاً منه. حرمتهم الإنترنت والهاتف والتلفاز والإنارة والقطار والسيارة وحتى حافلة النقل العام. حرمتهم البنزين، الذي وقفوا في طوابير لعدة ساعات من أجل الحصول على بعضه في الطقس البارد. حرمتهم حتى الفراش والدفء، ووضعتهم في العراء في مواجهة عوامل الطبيعة باللحم الحي. ربما قلب الإعصار «ساندي» الكثير من المفاهيم، كما قلب المساكن والحياة رأساً على عقب.
جاءت العاصفة الاستوائية، وتحالفت مع أخرى شمالية غربية. التقت العاصفتان فوق الولايات، كونكتكت ونيويورك ونيوجرسي، ومارستا سادية باردة بحقّ كل شيء. وبدلاً من ارتفاع منسوب المياه 11 قدماً قبالة حي وول ستريت جنوب مانهاتن وفي بروكلين وكوينز ولونغ آيلاند، بلغ الارتفاع 14 قدماً. الدفاعات الثلاثة المقامة لحماية مجمع أبراج 11 أيلول، التي لا تزال قيد الإنشاء، سقطت دفعة واحدة. غمرت المياه المجمع على نحو بدّد كل شعور بالتحدي للإرهاب والطبيعة؛ فبناء الأبراج العالية، كان في الأساس لإثبات أن الولايات المتحدة قادرة على التحدي وإعادة الاعتبار إلى هيبتها في العالم. حتى شبكة قطارات الأنفاق الهائلة، التي صمدت 180 عاماً دون التعرض لمدّ بحري يغرقها، خضعت لعنف الإعصار في الساعات الأولى وغرقت. أكثر من 460 محطة منها، ستحتاج إلى إعادة تأهيل، لا أحد يستطيع التنبوء بطول مدّتها بعد. تلك الشبكة تنقل 12 مليون مسافر يومياً، ومن دونها ستكون المواصلات في نيويورك جحيماً لا يطاق. مسألة سيكون لها تأثير بالغ السلبية في الاقتصاد في عاصمة الولايات المتحدة الاقتصادية. جميع المطارات في نيويورك ونيوجرسي وكونكتكت تعطلت. شبكات القطارات البرية توقفت عشية الإعصار وبقيت معطلة كلياً حتى عصر الأربعاء. الكهرباء بقيت معطلة بالنسبة إلى أكثر من ستة ملايين أميركي لعدّة أيام، وهناك مشاكل مستقبلية من جرّاء تفجر محطة توليد رئيسية في مدينة نيويورك، فيما تكتمت وسائل الإعلام حول وضع محطتين نوويتين في ولاية نيوجرسي التي شهدت الخراب الأكبر.
مناطق ساحلية بأكملها امَّحت عن الخريطة. وانتشرت الحرائق ملتهمةً عشرات المنازل في كوينز. وتبخرت مصادر المياه النظيفة. سلسلة الخسائر طويلة. وتقدير حجم الخسائر بنحو عشرين مليار دولار منذ الساعات الأولى، يبدو سخيفاً ولا صلة له بالواقع. ربما المقصود منه تعزيز ثقة مضعضعة بمستقبل نيويورك؛ فسمعتها من سمعة الصناعة المالية العالمية. وما يصيبها يصيب كل المراكز المالية في عدوى ليست في وقتها. المؤكد أن حجم الخسائر أكبر من أن يقدر بين ليلة وضحاها. فعودة المواصلات والاتصالات والكهرباء والبنزين والغاز والمياه ومحطات الطاقة ووقود التدفئة والجسور والطرق والمساكن والأسواق والبورصات إلى سابق عهدها ستحتاج إلى وقت طويل يقدر بالأشهر والسنين.
ما حل بالولايات الرئيسية الثلاث، التي وُضعت في خانة الكارثة الطبيعية، يشبه كثيراً ما حل بمدينة نيوأورليانز في إعصار «كاترينا»، الذي أغرقها في عام 2005. ما حل بهذه المناطق دفع الخبراء الى التوقف وطرح أسئلة كثيرة عن معنى الإصلاح لمدن مقامة على أراض مستقرضة من المحيط والبحار والأنهار. مدن تقع على ممرات أعاصير تتسارع وتيرتها بصورة لم تدع مجالاً للشك في أنّها ناجمة عن تغيرات كبرى في الأنماط المناخية. لم يعد أحد يتجاهل ما يجري من ذوبان الجليد المتسارع في القطب الشمالي. وإذا كان الحال كذلك، فما معنى إعادة بناء الأبراج العملاقة في مكانها في مانهاتن التحتا؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة، التي ترزح تحت وطأة ديون تاريخية تتجاوز 15 تريليون دولار، إنفاق عشرات أو مئات المليارات على بنى تحتية مهددة بالغرق بمياه مالحة ثانية وثالثة، كما حصل للبنى التحتية هذا الأسبوع؟

الأملاك البحرية

ما حصل في نيويورك ونيوجرسي وكونكتكت، في الأيام الماضية، يطرح قضية المدن المقامة على ما يسميها اللبنانيون «الأملاك البحرية». البحار كما الأنهار، لا تملك أحواضاً تتحرك ضمنها في مدّ وجزر وموج وحسب، بل لها أيضاً مجال حيوي لا يقاس بالأشهر والسنين، بل بالعقود والقرون. مجال من التربة غير المرصوفة لامتصاص مياه الفيضانات. هذا المجال قُولِب داخل أرصفة وحواجز وسدود. وجرى التعدي حتى على المجرى الحيوي الأساسي لها باستملاكات قسرية تتحدى الطبيعة. وهذا يجري نسخه في الكثير من الدول الساحلية، ولا سيما في الخليج، حيث يجري اقتطاع مساحات من البحر وردمها وإقامة مدن مؤقتة عليها مهما بلغت الكلفة.
والغريب أن كل الحضارات والثقافات القديمة حذرت بشدة من إقامة مدن على نحو ملاصق للسواحل والأنهار. من قصة الطوفان في ملحمة غلغامش إلى سفينة النبي نوح، الذي بنى سفينته على قمة جبل، لكن هل يغير الإعصار «ساندي» ما لم تستطع الأعاصير السابقة مثل كاترينا وأيرين تغييره؟
مقاول في نيويورك قال لـ«الأخبار» إن الأميركيين لن يتعلموا شيئاً من هذا الدرس. سيعود المشرّد من لونغ بيتش في جزيرة لونغ آيلاند لبناء منزله في نفس المكان بمجرد عودة البحر عنه. وفسر ذلك بأن الأميركي أسير التأمين؛ فالبوليصة تعوضه عن إعادة بناء المسكن في المكان نفسه، وهو سريع النسيان ولا يفكر بنفس الطريقة التي يفكر بها الآسيوي. إنه لا يفكر في الابن أو البنت أو الحفيد. العالم ينتهي عنده شخصياً. ومن بعده الطوفان.
هذا الشعور ينسحب أيضاً على التضامن الاجتماعي. المواطن الأميركي، الذي يتوقع أن تؤدي الدولة والمؤسسات الخاصة دوراً رئيسياً في مصيره ورفاهيته، ينتظر أن تأتي المساعدات منها بدون منّة. لا أن تأتي من تضامن اجتماعي قائم على علاقات أسرية أو عادات اجتماعية. هذا مجتمع اللاعادات. لا منّة لأحد على أحد، والدولة جهاز اعتباري لا يحتاج إلى أن يشكره أحد. وهكذا تبقى العلاقة بين المواطن والدولة مجرد علاقة حسابية قائمة على قواعد الرياضيات. والعلاقات الاجتماعية تبقى أسيرة القيود البراغماتية البحتة. أما مطابخ الشوربة، التي تقام في بعض الأحياء لإطعام المحتاجين، فهي متنفس يوجده الأغنياء كي لا يثور الفقراء، وكي لا يعتنقوا إيديولوجيات اشتراكية.
تكشف تجربة الإعصار أنّ هذا المجتمع يواجه أزمة حقيقية في تحديد أولويات الحياة والحاجات، وهو بعيد عن الواقع بعده عن العالم بمحيطات.
سيدة من نيوجرسي خسرت كل شيء، لكنها تروي حكاية بطولة حصلت خلال فترة الإعصار. في عتمة الليل، اكتشفت أن كلبيها مفقودان. استنجدت بجارها الشهم طالبة النجدة. خرج الرجل ليلاً والعاصفة تزمجر وسط رياح عاتية تندفع بسرعة 80 ميلاً في الساعة، ووسط أشجار تهوي هنا وهناك مدمرة منازل وسيارات وقاطعة طرقات، وجد الكلب الأول فأعاده إليها. ثم عاد مرة أخرى يبحث عن الكلب الآخر، ولم يعد إلا والكلب معه. وقفت هذه السيدة تتحدث لوسائل الإعلام عن تلك البطولات النادرة.
عندما ترى أشخاصاً يبيتون على أرصفة مانهاتن في جوّ جليدي، وبعضهم من الجنود المعطوبين الذين قاتلوا في حروب أميركا، تتساءل إن كانت العاطفة التي يكنّها أميركيون للكلاب أقوى منها للإنسان. ربما هذا ما يفسر توجه الرئيس الأميركي عشية الانتخابات إلى الأميركيين مطالباً بمساعدة المحتاجين مباشرة دون انتظار الدولة. وكما كان منتظراً منه في هذه المناسبة، لم يتردد في تقديم المساعدات إلى الولايات المنكوبة من الحكومة الاتحادية. ولو تأخر لكان الضحية الأولى لإعصار «ساندي».



النهوض من الركام

تعدّى عدد قتلى إعصار «ساندي» في الولايات المتحدة دون الكاريبي الـ77، بينهم 35 في نيويورك وحدها، أما الخسائر المالية، فقد تصل الى 50 مليار دولار. وقالت شرطة نيويورك في آخر حصيلة لها إن الاعصار أودى بحياة 34 شخصا في نيويورك، قضى غالبيتهم إثر سقوط اشجار أو صعقاً بالتيار الكهربائي أو غرقاً، فيما ذكرت وسائل الاعلام أنه تأكد مقتل 72 أميركياً في الولايات الـ15 التي ضربتها العاصفة، ما يرفع الحصيلة الاجمالية للإعصار «ساندي»، الى 144 مع كندا والكاريبي.
وكان الرئيس الاميركي باراك اوباما قد قام بجولة تفقدية على ساحل نيوجرسي المنكوبة، وتعهد الوقوف الى جانب الضحايا.
أما بالنسبة إلى الأضرار، فقد أعلنت شركة «ايكات» المتخصصة في تقدير الاضرار أن قيمة الاضرار التي خلفها الاعصار في أول اقتصاد في العالم تراوح بين 30 و50 مليار دولار، بينها 10 الى 20 مليار دولار قيمة الاضرار المشمولة بالتأمينات. والكارثة بيئية أيضاً، إذ ذكرت «سي أن أن» أن أكثر من مليون ليتر من الديزل تسربت الى سواحل نيويورك بعد مرور الإعصار.