طهران | طهران، من نافذة الطائرة، كتلة جبلية ضخمة. صخور بنيّة، وأرض متجعدة مثل وجوه كبار السن. الطائرات في مطار الإمام الخميني الدولي قليلة، قياساً بمساحة مدارجه. هنا طائرة متوسطة الحجم تابعة لـ Iran Air، وهنا طائرة كبيرة تابعة للخطوط الجوية الروسية. أما الخطوط الجويّة الأوروبية، وبعض الخطوط العربية، فلا وجود لطائراتها بسبب العقوبات الدولية. عقوبات حالت دون تحقيق بناة المطار حلمهم بأن يتحول إلى نقطة مركزية للرحلات بين الشرق والغرب. وهج الشمس يسبق الهواء إلى وجوه المسافرين، والأداء البارد لموظفي المطار لا يخفّف الحر. يمشي السائق مسرعاً نحو طهران. يخفض صوت المذياع، ويتضاءل صوت المغني الإيراني شيئاً فشيئاً. صوت وموسيقى دافئان. لم نحتج إلى استدراجه حتى يبدأ كلام السياسة. الدبابات المترائية عن بعد، دفعته الى الحديث. دبابة هادئة، مركونة على مدخل مدينة إعلامية بوجه عسكري. هي مدينة مخصصة لتصوير الأعمال الفنية عن «حرب الدفاع المقدس» أو «الحرب المفروضة»، كما يسمي الإيرانيون الحرب العراقية الإيرانية.
الحرب هاجس إيراني دائم، والانتصار فيها كذلك. تسأله عن احتمالات الحرب الأميركية واستعدادات إيران لصدّها، فيقول بصوت هادئ كأنه يحلل «نحن بلد قوي عسكرياً، لسنا العراق ولا أفغانستان، وشعبنا متمسك بحقوقه رغم الحصار، قدوتنا طفل اسمه حسين فهميدة». ولحسين فهميدة قصة تدغدغ العنفوان الإيراني، ففي حرب «الدفاع المقدس»، حمل بيديه الطريتين قنبلة، تقدّم بها نحو دبابة عراقيّة في منطقة خورمشهر الحدودية، فجّرها ومات.
على تخوم طهران، قاعدة دفاع جوي تبدو كالأشجار من بعيد، لكن التشابه في الألوان فقط. مضادات أرضية تفتح فوهاتها لالتهام طيران غريب. مشهدها مألوف للداخلين إلى العاصمة والخارجين منها.
الشعور القومي الإيراني حاضر في الشوارع العامة. تصطف الأعلام الإيرانية على جوانب الطرقات، كأسنان مشط ملوّن بالأخضر والأحمر والأبيض. سطوع الشمس عليها وسرعة الرياح يجعلان منها مشهداً وطنياً دائماً، تعزز هذا المشهد جداريات ضخمة وملونة لشهداء الجيش والحرس الثوري.
تسمي إيران شوارعها بأسماء شهدائها. تنافس صورهم، في الحضور، صور الإمام الخميني ومرشد الثورة الأعلى علي خامنئي. ولغير الإيرانيين حصة من جدران العاصمة، شهداء المقاومة الإسلامية في لبنان حاضرون أيضاً. جدارية كبيرة لهادي نصر الله، ولعماد مغنية شارع باسمه.
أول ما يلفت من طهران هو محيطها. تزنّرها الجبال دائرياً، كما تحيط الأم طفلها بيديها. هذا بعض من سلسلة جبال البرز، الممتدة من أذربيجان إلى تركمانستان عبر الأراضي الإيرانية؛ جبال جافة، تتحول قطعة ثلج متماسكة وهائلة في شتاء إيران. يتغنى بها الإيرانيون كرمز للرسوخ في الأرض. «دماوند»، أعلى قممها، مرسومة على النقود، وحاضرة في الأغاني الوطنية.
«ولي عصر»، من أطول شوارع العالم، شانزليزيه طهران، تظلله من جانبيه أشجار طويلة، تمتد عشرات الكيلومترات. يشعر العابر فيه أنه في قرية مكتظة.
ترفد الجبال طهران ببعض من رومنسيّتها. المساحات الخضراء التي لا تملّها العين، برغم كثرتها، تعطيها رومنسية أخرى. يقول مقيمون إن طهران الخضراء كانت سبباً في وصول محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة في ولايته الأولى، قبل أن ينقلب أثر اللون عليه، وتلاحقه احتجاجات تتبنى اللون الأخضر لأسباب مغايرة.
برغم خضرتها، طهران من أكثر المدن تلوثاً في العالم. تلك الحميمية بين الجبل والمدينة تمنع خروج الهواء الملوث منها بسرعة، وتمنع عنها الهواء الرطب أيضاً. يتسرب الغبار إلى الأنف بسلاسة. مصدره معروف: السيارات الكثيرة في شوارع طهران، ولولا قانون ينظّم دخولها يومياً، على أساس أرقام مفردة ومزدوجة للسيارات من خارج طهران، لكانت السيارات جبلاً آخر يطبق على نفس المدينة، كيف لا وهي 8 ملايين سيارة نهاراً، و4 ملايين في الليل.
يهون التلوث، طالما أن السيارات مصنوعة أو مجمّعة في بلادهم. اليد التي تقود السيارة هي ذاتها التي تصنعها. سيارات فرنسية كالبيجو والرينو هي الأكثر رواجاً، حيث تُجمع في إيران، إضافة إلى سيارات إيرانية في كل أدواتها مثل رانا ودنا وسيبا. من أي نقطة في طهران، يبدو برج ميلاد أبرز معالم التطور التكنولوجي في العاصمة. برج اتصالات هو الرابع في العالم من حيث الارتفاع.
العقوبات المفروضة بالتدرج منذ مجيء النظام الإسلامي تولد جدلاً في ذهن زائر المرة الأولى؛ من جهة، حفّزت الإيرانيين على الاعتماد على أنفسهم، بما ينتجونه مستغنين عمّن يعاقبهم، لأن إيران خرجت عن طوعه سياسياً. ومن جهة أخرى، تسمع إيرانيين يتحدثون عن وقع مؤذٍ لها، يبدأ بخفض مستوى رفاهية الشعب الإيراني، ولا ينتهي عند الشعور بالعزلة عن العالم. لا حوالات مالية من الخارج، إنها العقوبات من جديد. زحمة المصارف في طهران لا تعوض الركود المصرفي؛ ماكينات سحب النقود مرتبطة بالنظام الداخلي فقط.
لبنان في عيون الإيرانيين تختصره وجوه عدة. وجوه تعكس الصورة النمطية عن «بلاد الأرز» في بلاد فارس. السيد حسن نصر الله، الطبيعة الجميلة (علماً بأن المساحات الخضراء في طهران وحدها ربما تغطي لبنان كله)، نانسي عجرم أيضاً. يمكن أن تسمع إيرانياً يحب في لبنان «سيد نصر الله ونانسي أجرم» على حد سواء. ويمكن أن تسمع من لا يحب نصر الله، ويهوى الطابع الغربي في الشخصية اللبنانية، كما يمكن أن ترى من لا يحب في لبنان إلا السيد نصر الله.
عملياً، لا مناص من ربط هذه الآراء بالمواقف السياسية للطهرانيين، فمهسا ونسرين تناقشتا أمام الزائر اللبناني عن بلدهما. مهسا، فارسية الهوى، تؤيد الرئيس نجاد، لكنها ترفض فرض الحجاب، فيما تؤيده نسرين الإسلامية الهوى، ولا تعجبها سياسات نجاد والنظام من خلفه، لدعم قوى المقاومة على حساب إيران، تقول: «انظر، نفطنا لم يعد يشترى، ستزداد الأعباء علينا، إيران أهم من كل شيء». تظن أنك بدأت تفهم التنوع في إيران، لكن المقيمين هناك يجمعون على عكس ذلك «الشخصية الإيرانية مركبة بشكل غريب، دبلوماسية إلى أقصى الحدود، ويصعب فهمها على الفور. لكن يمكن سيرةَ الإمام الحسين بن علي أو الملك كورش أن تستثيرها فوراً.
بدقة، تتحدث سارة عن انحسار الكماليات والرفاهية. فالحاجات الأساسية متوفرة في إيران، من كهرباء وماء وقطاع صحي، و... دجاج. أزمة الدجاج التي عاير بها النائب وليد جنبلاط رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي، أثناء زيارته الأخيرة للبنان، ليست موجودة واقعاً. ففي طهران، تقدم كل المطاعم الدجاج بأسعار عادية.
يحب الإيرانيون اللحوم، وهي أساسية في أطباقهم، كما الأرز واللبن والرمان المجفف. تمتلئ مطاعمهم عند الواحدة ظهراً. مواقيت الطعام تكاد تكون مقدسة عند الإيرانيين، كما إهداء الورود في الزيارات. تفرغ المطاعم بعد العشاء، وكذلك دور السينما وتقفل الأسواق.
ليس في طهران حياة ليلية بالمعنى اللبناني للكلمة. أماكن السهر هي المقاهي، تراثية كانت أو غير ذلك. في مقهى «آريكيه إيرانيان» التراثي، تجد صورة مصغرة عن المجتمع الشبابي الطهراني غير الملتزم دينياً. أينما توجه وجهك، ترى جلسات بين شباب وصبايا، يتبادلون الإعجاب ضمن حدود النظرات. اللافت أن هذه الجلسات تكسر الأفكار المسبقة عن «التزمت» في إيران. لا يتشابه المشهد هنا مع نظرية الحوزات الدينية تجاه الاختلاط بين الجنسين.
يتجول محمد رضا في بازار طهران المركزي مع خطيبته. يمتنعان عن شراء أوانٍ أو فناجين غالية الثمن، فقد «ارتفعت الأسعار بعد العقوبات الأخيرة. بتنا نقتصر على الأمور الأساسية لبيت الزوجية». خطتهم المنزلية تثير استياء التجار قبل غيرهم. لكن الأمور ليست سيئة إلى هذا الحد. يقول تاجر الفضيات مصطفى، إن «الناس هنا تأقلموا مع الأزمة الاقتصادية، كل من يحتاج إلى سلعة سيشتريها مهما ارتفع ثمنها أو انخفض». البازار كبير جداً وذو بناء قديم عمره 300 عام. يبدأ من باب كبير، ولا تنتهي حدوده في جولة يوم واحد. هنا، يمكن أن ترى كل البضائع التي ستنتشر في أسواق طهران الشعبية والحديثة.
تتجول الكاميرا بحرية في شوارع طهران. لا يبالي الإيرانيون بأن تصورهم في المحال أو في الشارع العام. وللأنثى حظ الذكرين في الشارع. هنا شرطية، وهناك امرأة تركن سيارتها بسرعة لتنزل إلى عملها في الوزارة. لسن كلهن يرتدين الشادور، فقط الملتزمات دينياً، أو الموظفات في المؤسسات الرسمية.
أما غيرهن فيلفت حجابهن النظر من الناحية الجمالية. ينسدل الشعر إما من تحته، وإما من مقدمة الرأس. صحيح أنهن يتقيدن بتعليمات النظام الإسلامي، لكنهن حولن الحجاب إلى جزء لا يتجزأ من جمالهن.
تهتم المرأة الإيرانية بجمالها كثيراً. هذا الأمر ليس غريباً، فطهران ثالث مدينة في العالم بعد ريو دي جانيرو وبيروت، من حيث عمليات التجميل. وهذا ما يمكن ملاحظته سريعاً على أنوف فتيات طهران؛ «يبقى اللاصق الطبي على أنف الفتاة عاماً كاملاً، فعملية التجميل هنا مدعاة للتباهي»، حسبما تؤكد نسرين. تخرج نسرين هاتفها الخلوي وتفتح على صورها من دون الحجاب «أنا لست مقتنعة بفرض غطاء الرأس، لكنه لا يزعجني، ثمة أمور أكثر أهمية كالدراسة والعمل والحب، وهنا لا خلاف على السماح بها».




الدولة تمنع Facebook ولا تعاقب

لا يمكن تصفح موقع فايسبوك في إيران، بالطريقة العادية. تواجهك صورة لإنترنت إيراني «مُفلتر». يصنف المواقع بين اجتماعية ودينية وثقافية، مانعاً تصفح مواقع أخرى. لكن كثيرين وجدوا ما يكسر هذا الحظر المفروض من الدولة. برامج لكسر الحواجز الإلكترونية تباع بألفي تومان (ما يقارب دولاراً واحداً).
تعلم الأجهزة المعنية بهذا الأمر، لكنها لا تتحرك لمنعهم. يعلم مستخدمو الفايسبوك الكثر في إيران أنهم تحت مراقبة الدولة. ثمّة هاجس أمني وآخر ثقافي لا يقنعان الجزء الأكبر من مستخدمي مواقع التواصل.
فمؤيدو الحكومة لا يخشون أن يؤذي استعمالهم الفايسبوك دولتهم. أما المعارضون، فيعتبرون منعه قمعاً لحريتهم، لا يرضونه.
في المحصلة، الفايسبوك ليس سبباً لمشكلة في إيران. ثمة تسوية غير رسمية بين الدولة ومواطنيها، على استخدام هذه المواقع، على قاعدة «اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد».