نجح الرئيس الأميركي باراك اوباما في تخفيف وطأة الهجوم الجمهوري التي تتعرّض له ادارته مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية في 6 تشرين الثاني المقبل. لكن هذا النجاح على حساب حقوق الناس؛ اذ قررت ادارة اوباما أخيراً تشريع انتهاك الكرامة الانسانية من خلال اتاحة افلات مستخدمي التعذيب الجسدي والنفسي اثناء التحقيقات الجنائية مع المشتبه بضلوعهم في «الارهاب» من الملاحقة القضائية.
وكان المدعي العام في الولايات المتحدة، ايريك هولدر، قد حسم في حزيران 2011 أن التحقيقات القضائية في شكاوى نحو 100 سجين بالتعرض للتعذيب، التي تولاها المدعي العام الفدرالي جون دورهام، لم تتمكن من اثبات حصول تعذيب، باستثناء قضيتين استدعتا التوسع في التحقيق. لكن هولدر، بعد «التوسع في التحقيق»، أعلن أخيراً انكفاء الملاحقة القضائية للمسؤولين عن مقتل سجين في افغانستان يوم 20 تشرين الثاني 2002 وآخر في العراق عام 2003 تحت وطأة التعذيب. وجاء في نصّ قراره أن السلطات القضائية الاميركية «تمتنع عن الملاحقة لأن الادلة المقدمة غير كافية للتوصل الى ادانة من دون أدنى شكّ».
وكان جثمان المواطن الأفغاني، المشتبه في انتسابه الى تنظيم «القاعدة»، غل رحمن، قد عثر عليه عام 2002 في سجن سري تابع لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه) في ضواحي كابول يعرف باسم «صولت بت» (خندق الملح). كان رحمن معلقاً على جدار من الاسمنت وبدت على جسده آثار التعذيب. أما العراقي منادل الجمالي فتوفي، باعتراف أطباء عسكريين، مقتولاً في سجن أبو غريب، حيث التقطت صور لجسده المعذّب في كيس من البلاستك، فيما الضابط المسؤول عن «خلية استغلال المحتجزين» (detainee exploitation cell)، حيث سجن الجمالي، (بحسب وكالة أي بي)، يعمل حالياً متعهّداً لوزارة الدفاع الأميركية.
وأكد دورهام أن تعليق الموقوف ووضع كيس على رأسه وربط يديه بشكل يضغط على جسده بقوة لا يعدّ تعذيباً بحسب القوانين الأميركية. واللافت ان ملف التحقيقات في تعرض المحتجزين للتعذيب لم يتطرق الى عدم قانونية استخدام اسلوب «الاغراق» (waterboarding) (صبّ المياه على أنف الشخص المستجوب وفمه بعد تغطية وجهه برقعة من القماش لجعله يشعر بالاختناق واحساس بالغرق). بل تناول احتمال تجاوز المحققين الاميركيين لعدد المرات «المقبولة» لاستخدام هذا الاسلوب.
وكانت محكمة استئناف نيويورك قد أصدرت قراراً في أيار الفائت منعت بموجبه ملاحقة مستخدمي اسلوب «الاغراق» خلال التحقيقات مع الموقوف ابو زبيدة، على الرغم من اعلان هولدر عام 2007 أن هذا الاسلوب يعدّ تعذيباً. ومنعت المحكمة كذلك نشر صور وكالة الاستخبارات وتقاريرها التي تكشف «الاغراق» وذلك لأسباب تتعلق بـ«الحفاظ على الامن القومي» الأميركي (قرار القاضي ريتشارد وسلي).
قرار هولدر الأخير قطع الطريق على أي مسعى لمقاضاة عملاء وكالة الاستخبارات المركزية لاستخدامهم اساليب غير انسانية خلال استجواب مشتبه فيهم بالضلوع بجرائم ارهابية. وكانت السلطات القضائية الأميركية قد بدأت عام 2009 التحقيق في شكاوى تعذيب موقوفين بتهم الضلوع في الارهاب بعد هجمات 11 أيلول 2001.

الانتخابات الرئاسية أولاً

قرار هولدر الأخير يساهم في تشريع التعذيب بحجة «الحرب على الارهاب»، علماً أنه ينتمي الى فريق سياسي (الحزب الديموقراطي) كان قد تبنى خطاباً معاكساً لخطاب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، أكثر المتحمسين لتلك «الحرب». إن سرّ تحوّل موقف ادارة اوباما لخدمة شعارات سلفه يكمن في توقيته وبالنكسات التي تعرض لها هولدر، والتي جعلته عرضة للهجمات المركزة من قبل الجمهوريين؛ إذ بدأت هذا العام الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة ويعدّ المدعي العام الديموقراطي (الأسود البشرة) المقرب جداً من اوباما أبرز اهداف الجمهوريين، وذلك بسبب قضيتين أساسيتين، إحداهما عام 2009 والثانية في حزيران من العام الحالي. فهولدر كان قد أصدر عام 2009 قراراً بمحاكمة المتهم بالتخطيط لهجمات 11 ايلول 2001 خالد شيخ محمد في المحكمة الفدرالية في مانهاتن (نيويورك) لا في المحاكم العسكرية الاستثنائية. القرار أثار موجة من الاستنكار والغضب في أوساط شريحة واسعة من الأميركيين، وخصوصاً في الولايات التي ينال فيها الجمهوريون غالبية الاصوات. واضطرت ادارة الرئيس اوباما إلى التراجع عن ذلك تحت وطأة الضغوط، مدّعية يومها أن تراجعها يعود الى الكلفة الباهظة لإجراءات الحماية في المحاكم المدنية. أما القضية الثانية، التي قد تُسهم في اضعاف شعبية اوباما، فتتعلق بتحقيق في عملية أجراها «مكتب الكحول والتبغ والأسلحة» (أي تي أف) تخللها مقتل حارس حدود أميركي. ففي هذه القضية امتنع هولدر عن تسليم السلطات التشريعية الرقابية المستندات الخاصة بالعملية، وهو ما جعله عرضة للاتهام بـ«تحقير» (contempt) الكونغرس. اضطر اوباما إلى التدخل عبر اصداره أمراً بعدم الكشف عن المستندات، وذلك بموجب الصلاحيات التنفيذية الاستثنائية التي يتمتع بها. لكن هذا لم يمنع نجاح الجمهوريين في 28 حزيران الفائت في انتزاع قرار من الكونغرس (خرج الديموقراطيون من القاعة لدى بدء التصويت) حسم ضلوع هولدر في «تحقير» الهيئة التشريعية والرقابية الأميركية. وصحيح ان السلطات القضائية قررت في اليوم التالي عدم اتخاذ أي اجراءات بحق المدعي العام «لأن عدم تقديمه المستندات للكونغرس لا يشكل جريمة»، غير ان ذلك جعله، ومن خلاله الرئيس اوباما، عرضة لموجة أوسع من الانتقادات. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية اتخذ قرار عدم ملاحقة المسؤولين عن التعذيب حتى الموت، حيث ان هذا القرار أرضى الجمهوريين، وخفف من وطأة هجومهم على ادارة اوباما.



رفض تقصي الحقائق


اللجنة البرلمانية الاميركية لشؤون الاستخبارات اجرت تحقيقات لنحو ثلاث سنوات في اساليب الاستجواب التي تستخدمها وكالة الاستخبارات المركزية، ووضعت تقريراً مفصلاً بهذا الشأن. وعلى الرغم من أن التقرير الذي ترد فيه نتائج تلك التحقيقات سرّي، إلا أنه ظهرت في نيسان الفائت اشارة تدلّ على أن احدى خلاصات اللجنة البرلمانية ارتكزت على البحث في فاعلية اساليب التعذيب لاستخلاص معلومات تُسهم في تقدّم التحقيقات في قضايا الارهاب. وعلقت رئيسة اللجنة النائبة دايان فينشتاين على ادّعاء عميل سابق في وكالة الاستخبارات أن أساليب التعذيب أسهمت في التوصل الى تحديد مكان وجود أسامة بن لادن، قائلة إن هذا الادعاء «لا يستند الى معلومات دقيقة». اما رئيس اللجنة البرلمانية للشؤون القضائية النائب باتريك ليهي، فطلب تشكيل «هيئة لتقصي الحقائق» تمنح الحصانة القضائية لكل من يدلي بمعلومات قيمة بشأن أساليب التعذيب التي تستخدمها الاستخبارات الأميركية. لكن الرئيس باراك اوباما (الصورة) اعترض على ذلك، رغم تكراره أن «لا أحد فوق القانون» منذ توليه منصب الرئاسة. وقال إنه لا يريد ان يجعل موظفي السي آي إيه يقضون وقتهم باتخاذ الاحتياطات الحمائية من الملاحقة القضائية.