كانت أعمال مؤتمر دويتشه فيله حول «التعليم والإعلام» في يوميه الثاني والثالث قد أخذت منحىً مكثّفاً من النقاشات والحوارات وورش العمل الموزعة على الصالات والغرف المنتشرة في أرجاء المبنى التابع لمؤسسة الإعلام الألماني الرسمية «دويتشه فيله». لم يكن المشاركون في المؤتمر قد استفاقوا من سكرة اليوم السابق على المركب الذي جال بهم في نهر الراين، حيث استمتعوا بمناظر الضفاف الخلابة على جانبي النهر الأوروبي الشهير، وصولاً الى جسر ريماغن التاريخي الذي شهد معركة ضخمة بين الجيش النازي الألماني والجيش الأميركي، حين كان يقود دول الحلفاء بهدف القضاء على نظام الرايخ الثالث بزعامة أدولف هتلر.
قصة جسر ريماغن الذي لم يبق منه سوى قطعة صغيرة وبرجين يعلو أحدهما العلم الألماني والآخر العلم الأميركي، هي محط التباس. ففي حين يتباهي قليل من الألمان بأن جيشهم السابق قد دمّر الجسر وأسقط نحو خمسة آلاف قتيل من الجيش الأميركي، يشكّك البعض الآخر في هذه الرواية، قائلاً إن محاولة تفجير الجسر برتل من جيش العم سام لم تنجح في المرة الأولى بسبب تلف في فتيل التفحير، فيما كانت المحاولة الثانية ناجحة في تفجير الجسر لكن بأقل خسائر ممكنة في جيش العدو، لأن هذا الجيش تمكن من إخلاء المكان بعد المحاولة الفاشلة.
على أي حال، كانت المدينة التي حظيت بصفة عاصمة ألمانيا الغربية لمدة تزيد على ثلاثين سنة، مكاناً مناسباً لراحة المشاركين في المؤتمر، حيث فضّل بعضهم التجوال في مدينة المعالم والأبنية العريقة، على متابعة نقاشات استرسل فيها المتحاورون عميقاً إلى درجة التعب.
نقاشات عديدة دارت على هامش المؤتمر خرجت عن سياق المحاور المطروحة. أسئلة عديدة متبادلة حول بلدان مجهولة للبعض، وقضايا سياسية واجتماعية ودينية مثيرة للجدل تناقشها مجموعة من الشباب والفتيات على تلك الطاولة، أو حوار بين ألمان وغير ألمان حول أسرار مدينة بون وتاريخها السياسي والثقافي، حول الوجود الإسلامي السلفي والتيار اليميني المتشدد (حليقو الرؤوس).
تتمدد النقاشات والأسئلة لتطاول لبنان وسوريا وفلسطين وقضايا الربيع العربي، بين شباب يبحث عن معلومات وآخر يعطيها بكل رحابة صدر، إما بذهنية تبشيرية أيديولوجية أو بذهنية معرفية بحتة. نقاشات يرتاح الخائضون فيها من رتابة الجلسات المُعدّة سلفاً، وذلك من خلال رحلة تعارف على ضفة الراين تنقلب إلى بداية قصة حب بين شاب أفريقي وفتاة ألمانية أو بين فتاة أميركية لاتينية وشاب آسيوي.
أما بعض محبّي المعالم فلم يجد أفضل من منزل الموسيقي العالمي بيتهوفن الواقع خلف مبنى البلدية القديم العريق في جماليته المعمارية، وعلى مقربة من أسواق مخصصة للمشاة والدراجات الهوائية، حيث يكون الرصيف مناسبة لتذكير الناس بتاريخهم وعظمائهم. هنا وسط الرصيف تجد (بدلاً من فتحات المجاري) صور علماء وفلاسفة وموسيقيين ورجال سياسة وأدب. صور مزروعة على طرق العابرين تفتخر بها المدينة أنها مسقط رأسهم أو أنهم مروّا من هنا.
الآتون من العالم الإسلامي وبعض المهتمين بظاهرة السلفية يسألون أهل بون عن أحداث شهر نيسان الماضي التي سقط فيها جرحى خلال اشتباكات بين اليمين المتطرف والسلفيين، على خلفية قيام الفريق الأول بعرض صور مسيئة للنبي محمد. ولاية شمال الراين فيستفاليا، التي تقع بون في مجالها، أصبحت معروفة بهذه الظاهرة. لكن بعض الألمان يقللون من خطورتها. فقد تحدث أحد الصحافيين الذين يعيشون في المدينة عن الوجود السلفي قائلاً إن هذا أمر طبيعي، لأن ألمانيا بلد ديموقراطي ويحتضن كل الأهواء والتيارات والأديان. لكنه يشدّد على ضرورة أن يحترم الجميع، بمن فيهم اليمينيون المتشددون، القانون ولا يخرجون عن الخطوط الحمراء التي تحفط أمن المواطن والممتلكات العامة والخاصة.
الصحافي الذي يعمل في جريدة واسعة الانتشار ورفض الإفصاح عن اسمه، تحدث عن الاندماج وبعض التحديات التي تواجهها ألمانيا من بعض التيارات الألمانية نفسها، مشيراً إلى أن بعض المسلمين هم من يطالب بتشجيع الاندماج في المجتمع الألماني.

سبيستيان الذي يجيد العربية ولغات أخرى عديدة، تحدث عن قصر نظر السلفية، وقال إن جزءاً كبيراً منهم ألمان في الأصل. وذكّر بفترة الخمسينيات من القرن الماضي حين أتى الأتراك والمهاجرون المسلمون للعمل ضمن ورشة إعادة إعمار البلاد بعد الحرب. لكنه ركّز على دور المركز السعودي في بون في نشر مفاهيم السلفية الوهابية والتشجيع على انتشارها. أحد المشاركين في الحوار ذكّر بتوزيع مليون نسخة من القرآن بتنظيم من الحركة السلفية في أوروبا بدعم سعودي.
المفارقة أن مالك، وهو أحد السعوديين الذين يتابعون الدراسات العليا في جامعة بون، كان حاضراً هذا الحوار الصغير الذي حصل في أحد مقاهي شارع قيصر. مالك رأى أن الوجود المكثّف للسلفية في بون سببه إقامة العديد من الدبلوماسيين العرب والمسلمين في المدينة حين كانت عاصمة ألمانيا الغربية.
يشير مالك إلى أن المركز السعودي في مدينة بون أُقفل بعدما تجاوز بعض طلابه ورواده حدّ الوسطية والاعتدال، وانتقلوا الى التطرف والتكفير. يؤكد أن من أقفله ليس السلطات الألمانية، بل السعودية نفسها التي شعرت بالإحراج من تصرفات بعض السلفيين.
لكنّ شاباً آخر ركّز على دور النازيين الجدد في استفزاز المسلمين، معتبراً أن هذا السبب هو من أنزل أكثر من 600 سلفي إلى الشوارع في بون وغيرها من مدن ألمانية احتجاجاً على رفع رسوم مسيئة للنبي.
أما غازي الذي يعيش في بون منذ 30 سنة، فقد حلل هذه الظاهرة بوجود معظم المترجمين العرب الذين أتوا إلى عاصمة ألمانيا الغربية للعمل في محيط السفارات والمكاتب الحكومية وبقوا هناك رغم انتقال العاصمة الى برلين، وتحول أبناء هؤلاء من الجيل الثاني والثالث الى إسلاميين بعضهم متشدد. آراء متعددة بتعدد المشارب والأهواء والجنسيات طغت على مساءات بون الجميلة، فيما كانت موسيقى بيتهوفن تتناغم مع حوارات على الطريقة الديموقراطية الشرقية، حيث تعلو أصوات بعضها فوق بعضها وتضيع الفكرة بين موجات مياه الراين الذي شهد على تحولات عاصمة أصبحت قرية كبيرة هادئة قادرة على استيعاب التناقضات.