باريس | احتضن قصر الإليزيه، ظهر أول من أمس، اجتماعاً استثنائياً لـ«اللجنة الاستراتيجية» لحزب «التجمع من أجل أغلبية شعبية»، وهو الائتلاف اليميني الموالي للرئيس المنتهية ولايته، نيكولا ساركوزي. وأشارت التسريبات الإعلامية إلى أن ساركوزي سارع إلى دعوة أركان حزبه لهذا الاجتماع، بعد أقل من ساعتين على الاعلان الرسمي عن هزيمته في الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة أمام فرانسوا هولاند. وهدف ساركوزي إلى رصّ الصفوف، تحسباً للانتخابات البرلمانية التي ستجرى الشهر المقبل، وتفادي تفاقم الخلافات والانقسامات بين مختلف التيارات المنضوية في الحزب، ولا سيما أن التجمع اليميني يواجه تحدياً مزدوجاً في الاستحقاق البرلماني.
فالتقديرات الأولية تشير إلى أن أحزاب اليسار ستنال ثلاثة أرباع المقاعد النيابية. وذلك أمر بديهي، لأن فوز هولاند بالرئاسة سيفرز حتماً غالبية يسارية في البرلمان. لكن التجمع اليميني ليس مهدداً فقط بفقدان الغالبية، بل هناك مخاوف من أن يتغلب عليه اليمين المتطرف، الذي سيدخل المعترك التشريعي تحت مسمى جديد، حيث لن يتقصر الأمر على «الجبهة الوطنية»، بل سيكون هناك ائتلاف واسع يحمل اسم «بلو مارين» (الأزرق البحري) ستتزعمه مارين لوبان، وسيحاول استقطاب أصوات كل «التيارات السيادية» المؤيدة للأطروحات القومية المنادية بـ«الوقائية الاقتصادية» في مواجهة مدّ العولمة.
لكن اجتماع الإليزيه سرعان ما تحول إلى حلبة للجدل والتلاسن، بعدما كان الهدف منه ضبط موازين القوى الجديدة داخل التجمع اليميني، بعد انسحاب ساركوزي من موقع القيادة، تفادياً للانعكاسات السلبية لـ«حرب الزعامة»، التي احتدمت فور إعلان نتائج انتخابات الرئاسة. أراد ساركوزي، كما نُقل عن مستشاريه، التوصل إلى نوع من «وقف إطلاق النار» بين أقطاب التجمع، من خلال التوافق على استراتيجية موحّدة، لتفادي تشرذم أصوات اليمين خلال الانتخابات البرلمانية، وتأجيل «معارك الخلافة» لغاية انعقاد مؤتمر جديد للحزب، يُرتقب في منتصف أيلول المقبل. لكن الجدل الذي نشب بين أقطاب اليمين في الساعات التالية للهزيمة الرئاسية، سرعان ما طاول ساركوزي نفسه، حيث تعرض لانتقادات من تياري «اليمين الاجتماعي» والديغوليين. زعيم التيار الأول، وزير البيئة السابق جان لوي بورلو، عزا الهزيمة إلى «استراتيجية ساركوزي الخاطئة في المراهنة على أصوات اليمين المتطرف، بدل التقرب من ناخبي الوسط». أما وزير التعليم العالي، لوران فوكييه، وهو من أقطاب التيار الديغولي، فقد حمل بشدة على أسلوب إدارة الحملة الرئاسية، قائلاً إنه «من غير المشرِّف لليمين الجمهوري (العلماني) القيام بحملة لم ترتكز سوى على قضايا الأمن والمهاجرين».
خروج هذه الانتقادات إلى العلن، بعدما ظلت أسيرة الكواليس طوال الحملة الرئاسية، أثار حفيظة ساركوزي وفجّر ملاسنات نارية خلال اجتماع «اللجنة الاستراتيجية» في الإليزيه، بينه وبين من سماهم «مقدِّمي النصائح بأثر رجعي». وأشارت التسريبات التي نقلتها الصحف الفرنسية إلى أن الرئيس المنتهية ولايته حمل بشدة على منتقدي استراتيجيته الانتخابية، قائلاً لهم «أنتم الذين ترفعون أصواتكم بالانتقاد الآن، لم تكونوا الأكثر شجاعة خلال الحملة الانتخابية. لذا، فكلامهم لا قيمة له. فالمرء لا يحتاج لأي عبقرية سياسية لاسداء الدروس بعدما حُسمت الأمور وظهرت النتائج...».
المشاحنات اللفظية التي أفضى إليها اجتماع الإليزيه جعلت مفعوله معاكساً تماماً للأهداف المتوخاة. فهو لم ينزع فتيل الخلافات داخل التجمع اليميني، بل زادها احتقاناً. ويرتقب أن تشهد الأسابيع الخمسة المقبلة، التي تفصل بين صدمة الهزيمة الرئاسية وموعد الانتخابات البرلمانية، مزيداً من التجاذبات بين أقطاب اليمين. وفي ضوء موازين القوى الجديدة التي سيحدّدها المعترك التشريعي، يتوقع المراقبون إعادة تشكيل جذرية للتحالفات السياسية اليمينية، حيث من المرجح انفراط الائتلاف اليميني الذي كان موالياً لساركوزي، وظهور ثلاثة تشكيلات حزبية منفصلة تمثل «اليمين الاجتماعي» و«الديغوليين» و «اليمين الشعبي» المقرب من اليمين المتطرف.
إذا لم ينجح مؤتمر «التجمع من أجل أغلبية شعبية» في إقامة ائتلاف يميني جديد، يُرتقب أن ينفصل اليمين الاجتماعي، القريب من أفكار «يمين الوسط» أو ما يسمى «الديموقراطية المسيحية»، بزعامة رئيس «الحزب الراديكالي الاجتماعي»، جان لوي بورلو. ويتنازع على زعامة المعسكر الديغولي تياران يقود أحدهما رئيس الحكومة المنتهية صلاحياته فرانسوا فيون، بينما يلتف التيار الثاني حول وزير الخارجية ألان جوبيه. أما «اليمين الشعبي»، الذي يتزعمه وزير النقل تيري مارياني، فيتجه لكسر «التابو الجمهوري» المتوافق عليه في فرنسا منذ ربع قرن، للتحالف علناً مع اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان.
وكان «اليمين الشعبي»، الذي يمتلك في البرلمان الفرنسي الحالي كتلة تضم 43 نائباً، قد دعا علناً إلى التحالف مع حزب لوبان، بعد بروزها اللافت في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة. ويشكّل توجه هذا التيار إلى إقامة تحالفات محلية مع اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية المقبلة تحدياً إشكالياً يهدد بنسف «الاستراتيجية الموحّدة» للائتلاف اليميني، وذلك بسبب معارضة الديغوليين بشدة لأي تحالف مع اليمين المتطرف العنصري.



ساركوزي وما بعد الإليزيه


يغادر نيكولا ساركوزي الرئاسة في 15 أيار الجاري، وهو في سن الـ57. وبالرغم من أنه قام بتعديل سن التقاعد من 60 إلى 65 سنة، إلا أنه قال في بداية الحملة الرئاسية أنه سيعتزل السياسة إذا لم يفز بولاية ثانية.
والأرجح أنه يعتزم العودة إلى مهنته الأصلية كمحامي أعمال. وكانت مرشحة الرئاسة السابقة، سيغولين روايال (الصورة)، قد كشفت في كتاب أصدرته بعد انتخابات 2007 أنها نصحت ساركوزي، عندما استقبلها في الإليزيه بعد تسلمه الحكم، كما تقتضي الأعراف السياسية الفرنسية، بتفادي الشطط التحريضي الذي يهدّد بتوتير الأجواء السياسية والاجتماعية في البلاد. وأضافت أن نزيل الإليزيه رد عليها آنذاك بجواب يبدو اليوم بأثر رجعي أقرب إلى النبوءة، قائلاً «أنا رئيس إصلاحي لا يهمني أن أكون شعبياً أو محبوباً، لأنني أعرف أنني لن أفوز بولاية ثانية. سأطبق البرنامج الذي انتُخبت على أساسه، ثم أغادر الحكم وأترك السياسة، لأعود إلى مهنتي كمحامي أعمال، لأنها ستسمح لي بجني أموال طائلة لا تقارن بما أكسبه كرئيس للجمهورية»!