باريس | مع اختتام الحملة الرسمية لانتخابات الرئاسة الفرنسية، مساء أمس، وقبل بدء «فترة التعتيم»، في الـ 48 ساعة التي تسبق الاقتراع، توافقت كل المؤشرات على ترجيح فوز المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند. ولم تعد التحاليل والتوقعات مرتكزة على نتيجة الاقتراع، التي تبدو محسومة سلفاً، بل أصبح المراقبون مهتمين أكثر برصد الانعكاسات المتوقعة لزلزال اسمه «نهاية الساركوزية».
آخر استطلاعات الرأي، التي أجريت في الساعات الأخيرة، قبل بدء التعتيم، أجمعت على أن المرشح الاشتراكي سيتصدّر بفارق 5 إلى 6 في المئة عن منافسه ساركوزي. وبينت 5 استطلاعات متزامنة أجرتها، أمس، 5 معاهد سبر آراء مختلفة، أن هولاند سينال ما بين 52,5 إلى 53,5 في المئة، مقابل 46,5 إلى 47,5 في المئة لساركوزي. وأجرت مجلة «لوبان» دراسة معمقة زاوجت فيها بين نتائج هذه الاستطلاعات الخمسة ومختلف العوامل الأخرى المؤثرة في الاقتراع، مثل نسب الامتناع والمشاركة، والتوزيع المحتمل لأصوات الوسط واليمين المتطرف. وخلصت الدراسة إلى معدّلات دقيقة ترجّح فوز هولاند بـ 52,8 في المئة، مقابل 47,5 في المئة لساركوزي.
بالرغم من أن احتمال حدوث مفاجئة يبقى قائماً في أي استحقاق انتخابي، إلا أن المحللين أجمعوا على أن ساركوزي يحتاج إلى «ما يشبه المعجزة» لتدارك الهوة التي تفصله عن هولاند، وذلك بعدما تبين أن رهان الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته على أصوات اليمين المتطرف جاءت نتيجته عكسية تماماً، حيث أوضحت الاستطلاعات الأخيرة أن 46 في المئة فقط ممن اقترعوا لمارين لوبان سيدعمون ساركوزي في الجولة الثانية، فيما أدت مغازلة المتطرفين إلى تأليب تيارات الوسط على ساركوزي، ودفعت بزعيمها فرانسوا بايرو إلى تأييد هولاند.
بذلك اجتمعت كل العوامل الكفيلة بمنع نزيل الإليزيه من الفوز بولاية رئاسية ثانية. ولم يبق لأنصار ساركوزي سوى أمل ضئيل يتمثل في الرهان على المجهول الوحيد الباقي في المعادلة الانتخابية، والمتمثل في نحو 15 إلى 17 في المئة من الناخبين المترددين، الذين كشفت الاستطلاعات الأخيرة أنهم لا يستبعدون تغيير خياراتهم في آخر لحظة. لكن يُجهل إن كانت أصوات المترددين ستسمح لساركوزي بتدارك تأخّره عن هولاند، أو سيكون لها مفعول عكسي يؤدي إلى تعميق الهوة، وبالتالي فوز المرشح الاشتراكي بفارق أكبر.
في ظل هذه المعطيات التي تجعل نتائج الاقتراع شبه محسومة سلفاً، تحوّلت أنظار المحلّلين، داخل فرنسا وخارجها، نحو مسألة أخرى تتعلق برصد الانعكاسات السياسية المتوقعة لـ«نهاية الساركوزية»، وتحليل ردود المختلفة، فرنسياً وأوروبياً ودولياً، حيال العودة شبه المؤكدة لليسار الفرنسي إلى الحكم.
هيئات الاتحاد الأوروبي استبقت فوز هولاند بإعلان عقد قمة مطلع حزيران المقبل، وتخصّص لوضع سياسة اتحادية لدعم النمو الاقتصادي، كما يطالب به اليسار الفرنسي. أما الأوساط المالية، التي سعى ساركوزي إلى تخويف الفرنسيين من رد فعلها على فوز اليسار، فقد أرسلت أمس مؤشرات مطمئِنة جداً، حيث منحت لفرنسا قروضاً بنسب فوائد تعدّ الأخفض منذ صيف 2008. وعلى صعيد السياسة الدولية، عكست تعليقات المحللين إجماعاً على أن «نهاية الساركوزية» ستضع حداً لمنهج العنف والشطط، الذي يقارنه البعض بـ«الإرث البوشي» في الولايات المتحدة سابقاً.
هذا التفاؤل باندحار الساركوزية ينسحب أيضاً على الصعيد العربي. ولا يكاد يُستثنى من هذا الإجماع سوى «ثوار ليبيا»، الذين سيخسرون برحيل نزيل الإليزيه الحالي عرَّاب ثورتهم، وزعيم التحالف الأطلسي الذي ساعدهم على «التحرّر» من نظام القذافي، بالإضافة إلى حفنة قليلة من المعارضين السوريين، وبالأخص في صفوف «المجلس الوطني»، ممن راهنوا على شطط السياسات الساركوزية أملاً في تكرار السيناريو الليبي في سوريا.
باستثناء السلطة الليبية الجديدة، تشهد الدول المغاربية التي تربطها بفرنسا علاقات وثيقة، سواء على الصعد السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بفعل التقارب الجغرافي ووجود جاليات مغاربية في فرنسا تفوق 7 ملايين مهاجر، موجات تفاؤل كبيرة بأن تؤسس عودة اليسار إلى الحكم لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع فرنسا. وتذهب بعض الأحزاب والتيارات السياسية المغاربية، كما تشير تقارير مراسلينا المنشورة ضمن هذا الملف، إلى حد اعتبار رحيل ساركوزي من الإليزيه شرطاً لأي تحسن في العلاقات مع فرنسا.
في الدول العربية التي شهدت ثورات شعبية، كتونس ومصر، تنظر السلطات الجديدة إلى رحيل ساركوزي عن الحكم بوصفه نقطة تحوّل مفصلية تمهّد لقطيعة مع «ممارسات الماضي»، واغتنام فوز اليسار من أجل التأسيس لعلاقات ندّية، بعيداً عن «فكر الوصاية» النيو _ كولونيالي، الذي دفع فرنسا الساركوزية إلى الوقوف في صف الطغاة، خلال الثورات التونسية والمصرية، بحجة تأمين الحدود الجنوبية لأوروبا من فلول المهاجرين، من قبل نظام بن علي، ورعاية مصالح إسرائيل وأمنها، من قبل نظام مبارك في مصر وحلفائه في ديكتاتوريات وممالك «دول الاعتدال» العربية.
أما في الدول العربية التي تشهد حراكاً شعبياً من أجل التحرر والكرامة، من دمشق إلى نواكشوط، فإن أفول الساركوزية يبشِّر بكسر شوكة المراهنين على «التدخل الأجنبي»، ما سيحصّن الحراك الشعبي ضد منزلقات الديموقراطية المحمولة على ظهور الـ«إف 16». وأما بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فإن حركات المقاومة، داخل الأرض المحتلة أو خارجها، لن تحزن بالتأكيد على هزيمة أول رئيس فرنسي، منذ الجنرال ديغول، تجرَّأ على المفاخرة بصداقته للدولة العبرية.