الجزائر | يجسّد الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس المالي أمادو توماني توري، الوضع الهش والملتهب في منطقة الساحل الأفريقي واقترابها أكثر فأكثر من الانفلات. فهو الثالث في سلسلة انقلابات وقعت في السنوات الأربع الأخيرة اطاح أولها الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في موريتانيا صيف عام 2008، تلاه آخر أسقط ممادو تانجا في النيجر في شباط 2010، فضلاً عن الانتفاضة الليبية التي أسقطت نظام معمر القذافي بعد ثمانية اشهر من الحرب. ويرشّح خبراء منطقة الساحل الأفريقي أن تكون من أكثر مناطق العالم سخونة، وربما انجرّت إلى مواجهات طويلة المدى بالنظر لظروفها الطبيعية والاجتماعية ونسيجها العرقي والديني والمصالح الحيوية الكثيرة التي تشكل عوامل استقطاب للقوى الاقليمية والدولية. فقد شهدت طوال العقود الماضية مواجهات دامية متلاحقة بين النظامين في باماكو ونيامي ومجموعات مسلحة من قبائل الطوارق، سكان الصحراء الكبرى، الموزعين على سبع دول في المنطقة على الأقل. فقد تركت فرنسا حين خرجت من مالي والنيجر بداية ستينيات العقد الماضي قنابل موقوتة بتهميش الطوارق، وهم من البربر وأقلية عربية في البلدين. وكان هذا التهميش مصدر قلاقل على مدى الخمسين عاماً الماضية. وقادت الجزائر صلحاً بين الأطياف السياسية والاجتماعية والعرقية في البلدين، لكن الانتكاسة كانت العامل الحاضر باستمرار بفعل التجاذبات الاقليمية والدولية وتوفر أسباب التحريض على العصيان. ويضاف إلى هذا العامل الانتشار السريع لتنظيم القاعدة بالمنطقة بعد انحسار نشاطه في أفغانستان. ووجد التنظيم في الصعوبات الطبيعية للمنطقة عنصر حماية فأقام معسكرات التدريب في شمال مالي ونفذ عشرات العمليات معظمها اختطافات لرعايا أجانب بقصد تحصيل أموال الفدية. وكان نشاط «القاعدة» مبرراً كافياً لدول أوروبية كبيرة، أهمها فرنسا، المستعمر السابق لتلك الأراضي، وبريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، لرفع لواء الحرب على الارهاب، ومطالبة الجزائر خصوصاً بعمل عسكري مشترك أساسه اقامة قواعد عسكرية على مقربة من أماكن تواجد خلايا التنظيم. لكن دول المنطقة رفضت العرض وبادرت بتأسيس «قيادة الأركان المشتركة لدول الساحل» اشتركت فيها الجزائر موريتانيا ومالي والنيجر صيف عام 2009 قوامها 75 ألف جندي مع ضمان التغطية الكاملة لجانب الرقابة من سلاح الجو الجزائري. وباركت الولايات المتحدة الخطوة وقدمت مساعدات لتحقيقها. وتعمل هذه القيادة بتنسيق تام مع قيادة القوات الأميركية الخاصة بافريقيا (أفريكوم). وقد أعطت واشنطن الضوء الأخضر للجزائر لعمل كل ما من شأنه الحد من نشاط التنظيم في المنطقة بما في ذلك ملاحقة المسلحين في أراضي البلدان المجاورة. كذلك طلب أمادو توماني توري من الجزائر التدخل المباشر في شمال بلاده لفرض الأمن، لكن تحقيق ذلك يحتاج إلى تغيير «الطبيعة الدفاعية للجيش الجزائري» الممنوع قانوناً من الحرب خارج حدوده. ومن غير المستبعد أن تقدم الجزائر على مثل هذا التغيير لأن البلد هو أكبر قوة إقليمية على كل الصعد، ووجب عليه التكفل بأكبر الاعباء حتى على المستويات العسكرية وفرض الأمن والاستقرار، وخصوصاً بعد التدفق الكبير للأسلحة باتجاه مواقع القاعدة من ليبيا بعد الانفلات الامني خلال الانتفاضة وبعدها.
فقد أكدت تقارير استخبارية أن كميات كبيرة من الأسلحة أخرجها إسلاميون وتجار سلاح من مخازن معمر القذافي وعبرت الحدود إلى شمال مالي، حيث المواقع الرئيسية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي - فرع الصحراء الكبرى. وفضلاً عن هذا الوضع المتفجر، فإن منطقة الساحل الأفريقي تطفح بالخيرات التي تسيل لعاب جهات كثيرة. ففيها نفط وغاز الجزائر وليبيا ونيجيريا، وكذلك مناجم اليورانيوم والذهب وأكبر مخزون في العالم للطاقة الشمسية المؤهلة للتحول إلى كهرباء. ويرشح الخبراء منطقة الساحل الافريقي لمزيد من التوتر في سياق صراع اقليمي ودولي، فمع أن من نفذوا انقلاب أمس برروا حركتهم بالسعي إلى استتباب الامن والاستقرار وتجاوز ضعف نظام امادو توري، إلّا أن خبراء أدخلوا ما حدث في سياق صراعات بين دول إقليمية ودولية تعمل لتكريس نفوذها، وتبعاً لذلك استبعد خبراء أن يحدث في باماكو ما حدث دون علم الجزائر وباريس أو إحداهما لكونهما أكبر لاعبتين على تلك الساحة.