باريس | عند الإعلان عن اغتيال جنديين فرنسيين من قوات المظليين، قرب ثكنتهما في «مونتوبان»، جنوب غرب فرنسا، ظهر أمس، اعتقد معظم المحللين أن الأمر يتعلق بحادثة معزولة مرتبطة بعملية انتقام رمزية على خلفية مشاركة الجيوش الفرنسية في حرب أفغانستان. وتعمّدت السلطات التخفيف من خطورة الحادثة والانتقاص من مغزاها السياسي، بحيث لم تفلح عملية اغتيال ثانية استهدفت جندياً آخر في تولوز، أول من أمس، في اختراق التعتيم الأمني والإعلامي على الدوافع العنصرية لهذه الاغتيالات، فلم تتسرب أي معلومات بخصوص هوية الجنود الثلاثة الذين تم استهدافهم، بما أن جميعهم من أصول مسلمة (إثنان من أصل مغاربي وثالت من جزر الأنتيل).
جاء هذا التعتيم بعد أسبوع واحد من توافق السلطات الفرنسية وممثلي الجاليات المسلمة على المسارعة إلى لفلفة قضية أخرى تتعلق باعتداء غامض استهدف ملحمة تبيع اللحم الحلال في مدينة «غيلانكور»، غرب باريس، فجر 13 آذار الماضي. وسارعت أحزاب اليسار الى إدانة الحادث، ووجّهت أصابع الاتهام إلى الرئيس نيكولا ساركوزي ومرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان بـ«التحريض على مجازر اللحم الحلال منذ أسابيع، ما يُعد تشجيعاً غير مباشر على هذا النوع من الاعتداءات العنصرية». لكن مصالح الشرطة لم تلبث أن نفت ذلك، وأشارت إلى أن التحقيقات الأولية «لم تكشف أي قرائن تُثبت أن الأمر يتعلق باعتداء، ورجحت أن يكون الحادث ناجماً عن انفجار قارورة غاز». ورغم أن صاحب الملحمة نفى أن يكون في متجره أي آلات تعمل على الغاز، إلا أن ممثلي الجاليات المسلمة سارعوا إلى التصديق على سيناريو «الحادث العرضي»، خشية أن يؤدي الأمر إلى تغذية مشاعر الإسلاموفوبيا. وكان لافتاً أنّ عميد مسجد باريس الكبير، دليل أبو بكر، تقدّم هؤلاء المروّجين لرواية السلطة، وقد أعلن بعدها بأيام قليلة تأييده رسمياً لساركوزي في المعترك الرئاسي.
ولم يقتصر الأمر على الجاليات المسلمة، بل جرى التعتيم أيضاً على شكاوى قضائية تقدّم بها حاخامات كنيسين يهوديين في باريس، إثر وصول رسائل تهديد ذات طابع عنصري إليهم. وكان واضحاً أن السرية التي أحيطت بها تلك التهديدات والشكاوى القضائية، كان الهدف منها تفادي إحراج المرشح ساركوزي الذي يتهمه منافسوه اليساريون بـ«اللعب بنار النعرات الشوفينية التي تهدد بإيقاظ الوحش العنصري». ولم يُكشف عن تلك التهديدات التي وُجهت إلى الكنيسين إلا بعد الاعتداء الدموي الذي استهدف صباح أمس مدرسة يهودية في تولوز، وأدّى إلى مقتل 3 أطفال وأحد المدرِّسين. وكالعادة حين يتعلق الأمر باعتداءات ضد رموز يهودية، سارعت الأوساط الصهيونية العالمية إلى استغلال هذه الحادثة المأسوية لربطها بـ«أمن إسرائيل» و«معاداة السامية» (راجع الكادر أدناه). وكان لافتاً أن المحامي الفرنسي المعروف بأفكاره الليكودية المتشددة، جيل وليام غولدنادل، رئيس جمعية الصداقة الفرنسية ـــــ الإسرائيلية، نائب رئيس المجلس التمثيلي ليهود فرنسا، سارع إلى توجيه أصابع الاتهام إلى «التيارات الإسلامية والحركات الراديكالية الفلسطينية»، زاعماً أن «الأسابيع الماضية شهدت العديد من حوادث الاعتداء على شباب يهود في مدن فرنسية عدة، على أيدي متطرفين إسلاميين»، وهو ما كذّبته مصادر الشرطة الفرنسية.
وسرعان ما تسرّبت النتائج الأولية للتحقيق، لتتوجه أصابع الاتهام إلى اليمين المتطرف، لا إلى الحركات الإسلامية أو الفلسطينية. وبيّنت التحريات بسرعة أن حادثة الاعتداء على المدرسة اليهودية في تولوز هي من تدبير الشخص نفسه الذي ارتكب سلسلة الاغتيالات ضد الجنود المسلمين الثلاثة، الأسبوع الماضي. لم يلقَ القبض على الجاني، لكنه ترك وراءه قرائن متعددة تثبت تورّطه، إذ أثبتت فحوص الأعيرة النارية أنه استخدم السلاح ذاته في كل تلك العمليات، وأنه كان يستقلّ الدراجة النارية ذاتها في جميع جرائمه.
سارع الرئيس ساركوزي إلى زيارة المدرسة اليهودية في تولوز. لكن الحرج بدا واضحاً عليه، لأن وصوله إلى المكان تزامن مع تأكد الربط بين الحادثة واغتيالات الجنود الثلاثة، وكشْف وسائل الإعلام أنهم مسلمون. لكن الرئيس لم يعدّل خطابه على ضوء تلك المستجدات، وقال في كلمة ألقاها أمام طاقم المدرسة اليهودية، إن الاعتداء «جريمة معادية للسامية تستهدف الجالية اليهودية الفرنسية». أما اغتيالات الجنود المسلمين، فأشار إلى أنها استهدفت جالية أخرى هي ... الجيش!
وفيما اكتفى المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند، بالمزايدة على ساركوزي في إظهار التعاطف مع الجالية اليهودية وشجب الاعتداءات المعادية للسامية، كان مرشح الوسط، فرانسوا بايرو، أول من وجّه أصابع الاتهام إلى اليمين المتطرف، داعياً إلى «التفكير ملياً في الأسباب غير المباشرة التي شجعت على تفجير هذا النوع من الحقد العنصري». ونحى مرشح «جبهة اليسار»، جان ــ لوك ميلانشون، المنحى ذاته، داعياً الجميع إلى «أن يزنوا جيداً وقع الكلمات والتصريحات التي يطلقونها خلال هذه الحملة الانتخابية». أما المرشحة البيئية، كورين لوباج، التي أُقصيَت من السباق الانتخابي، فقد حمّلت بشكل صريح، ساركوزي «المسؤولية الأخلاقية عن إشاعة أجواء الحقد التي أدت إلى هذا النوع من الاعتداءات العنصرية». أما مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، فاكتفت بـ«إدانة هذه الاعتداءات الدموية»، داعية إلى «الوحدة الوطنية في مواجهة هذا الظرف المؤلم».
وفيما أعلن ساركوزي تعليق حملته الانتخابية، وتشديد إجراءات قانون الطوارئ Vigipirate إلى اللون الأرجواني (أعلى درجات الطوارئ)، نقلت مجلة «لوبوان»، عن مصادر مقربة من التحقيق، أنّ مصالح الشرطة الفرنسية ترجّح أن تكون اغتيالات الجنود المسلمين والهجوم على المدرسة اليهودية من تدبير شلة تضم 3 جنود فصلوا أخيراً من قوات المظليين الفرنسيين، بسبب انتمائهم إلى تنظيم سري مقرب من «النازيين الجدد».



إسرائيل والسلطة تدينان


سارعت عواصم دولية كثيرة إلى التنديد بجريمة المدرسة اليهودية. وكانت إسرائيل من السبّاقين، إذ أعربت عن شعورها «بالذهول» إزاء «الجريمة الدنيئة» في المدرسة اليهودية في مدينة تولوز الفرنسية أمس، والتي قُتل فيها أربعة أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال. ودان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو «الجريمة الدنيئة»، وقال، بعد ساعات من الجريمة، «اليوم في فرنسا وقعت جريمة قتل دنيئة استهدفت يهوداً، من بينهم أطفال صغار، الوقت لا يزال مبكراً جداً لتحديد سبب هذا التصرف، لكننا بالتأكيد لا نستطيع استبعاد خيار أن الدافع كان معاداة السامية العنيفة والقاتلة». وفيما بدا «بيبي» متأكداً من أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وحكومته سيقومان «بكل ما في وسعهما للعثور على القاتل»، فإنه عرض مساعدة إسرائيل.
كذلك دانت السلطة الفلسطينية بشدة الاعتداء الذي وصفته بأنه «عمل إرهابي». وأشار كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات (الصورة) إلى أنه «عمل إرهابي بكل المقاييس، ونحن على الدوام ضد الإرهاب الذي يستهدف المدنيين الأبرياء».
(أ ف ب)