بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، اتجهت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها إلى تمزيق روسيا إلى دويلات صغيرة متحاربة، ما يسهل السيطرة عليها وعلى مواردها الهائلة، إلا أن النهوض الاقتصادي والعسكري والسياسي الروسي مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم أحبط المخططات السوداء، وأعاد روسيا إلى موقعها كقطب دولي قادر على الدفاع عن مصالحه الإقليمية والدولية، وهو ما أجبر الغرب على وضع خططه بشأن روسيا على الرف، حتى نضج أوضاع ملائمة لتفعيل خططه بشأن روسيا مستقبلاً.
منذ عام 1991 بدأ الغرب في الاستيلاء على دول أوروبا الشرقية، وتدمير ما أُنجز بناءً على النظام الاشتراكي، واستغلال ثرواتها وإطلاق يد قوى إجرامية في الاستيلاء على مقدراتها الاقتصادية، واستكمالاً لذلك شنت هجوماً على جميع القوى التي عارضت سياستها، وبدأت بتوسيع حلف شمال الأطلسي «الناتو» لتعزيز السيطرة السياسية والاقتصادية على تلك الدول بشعارات خادعة كالديموقراطية والحرية، وفي إطار جديد سمته الاتحاد الأوربي. وتمكنت روسيا من خلال النهوض الذي شهدته أخيراً من إبعاد أوكرانيا عن براثن «الناتو» حتى الآن، لكن الموقف الروسي الصارم من الأزمة السورية، وفشل الغرب وحلفائه الإقليميين في تدمير الدولة السورية، جعلاه يفكر في نقل المعركة مع روسيا إلى حدودها، لعله يستطيع بذلك تحقيق نصر يرد إلى روسيا الصاع بصاعين.
تميزت أوكرانيا تاريخياً بعلاقة وثيقة مع روسيا تزيد على 1000 عام، فقد أُسست إمارة كييف-روس بداية نشوء روسيا التاريخية قبل 1200 عام، وأصبحت بعدها جزءاً من الاراضي الروسية، وجرت مجابهة النزعة القومية لأوكرانيا بالعنف، وتقاسمت روسيا وبولندا أراضي أوكرانيا حتى انتصرت ثورة تشرين الأول الاشتراكية، وأُقيمت جمهورية أوكرانيا التي أصبحت جزءاً من جمهوريات الاتحاد السوفياتي واكتسبت عضويتها في الامم المتحدة منذ نشوء الهيئة الدولية، وقد ضُمّ الجزء الغربي من أوكرانيا إلى الدولة الأم عام 1939 بعد احتلال المانيا النازية لبولندا والاتفاق الروسي الالماني.
وكان غرب أوكرانيا يمثل دائما مشكلة للاتحاد السوفياتي نتيجةً لتنامي المشاعر القومية والشوفينية المعادية لروسيا، ووقف غرب أوكرانيا دائماً مع أعداء الاتحاد السوفياتي، فقد أنشأت جيشها الخاص (الحر) الذي قاتل إلى جانب المانيا النازية، واستمر في حرب عصابات ضد السلطة السوفياتية حتى أوائل خمسينيات القرن الماضي، واستمر بعدها في شحن المشاعر القومية الشوفينية ضد روسيا.
وفي عام 1991، استقلت أوكرانيا عن الاتحاد السوفياتي، وواجهت مشاكل صعبة ومعقدة، وكبقية الجمهوريات السوفياتية السابقة وقعت تحت تأثير مافيات الإجرام السياسي والاقتصادي، التي نهبت مقدرات الدولة الاقتصادية والمالية منذ الاستقلال حتى الآن، وهو ما أوصل الدولة إلى انهيار اقتصادي وإداري، عانى نتائجه السكان في تراجع مستويات المعيشة والاستقرار، وازدياد العنف المجتمعي تحت تأثير تدخل القوى الغربية التي تحاول السيطرة على هذه الدولة الغنية صناعياً وزراعياً؛ فهي تحتل المركز الثاني أوروبيا في انتاج الحبوب، وتملك قاعدة صناعية متقدمة تكنولوجياً. ومنذ الاستقلال، عمد زعماء أوكرانيا إلى التصادم الدائم مع روسيا، وخاصة عندما أصبح فيكتور يوشينكو رئيساً بتحالف مع يوليا تيموشنكو رئيسة الوزراء على أثر الثورة البرتقالية بدعم مباشر من الغرب، الذي رفض الاعتراف بنجاح فيكتور يانكوفيتش، وأعيدت الانتخابات، وفرض الغرب حليفيه المذكورين، الذين قادا حملة سياسية ضخمة ضد روسيا، وضد حليفها فيكتور يانكوفيتش رئيس حزب الاقاليم، الحزب الأقوى في أوكرانيا، الذي يمثل أوكرانيا الشرقية والروس المقيمين في البلاد، الذين يمثلون ربع عدد السكان البالغ 50 مليوناً.
فجر الثنائي الحاكم وممثلو الثورة البرتقالية مشاعر العداء القومي لروسيا، وصعدوا الصدام معها انصياعاً لأوامر الغرب في ضم أوكرانيا لاتحاد الاوروبي وحلف الناتو، وتركز الخلاف الروسي الاوكراني حول وضع اللغة الروسية في أوكرانيا، وتوريد الغاز إليها، ومنها إلى اوروبا، وأسطول البحر الأسود الذي جرى اقتسامه مناصفة بين الدولتين، واتفاقية لتأجير قاعدة «سيفاستوبل» لروسيا لـ49 عاما.
لم تعترض روسيا على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها رفضت ضمها إلى حلف «الناتو». اضطر «الناتو» الى تأجيل بحث ذلك، بعدما دخلت روسيا الحرب ضد جورجيا المدعومة من الغرب إثر اجتياح القوات الجورجية اوسيتيا، واقتراف جرائم فظيعة ضد السكان. حيث وصلت رسالة روسيا إلى الغرب بأنها مستعدة للتصادم حتى النهاية إذا شعرت بتهديد جدي لأمنها القومي.
بعد وصول يانكوفيتش للحكم، عادت العلاقات الروسية الأوكرانية إلى الهدوء، ونشأت إمكانية لبناء علاقات جديدة على أساس المصالح المشتركة للدولتين، لكن يانكوفيتش لم يكن على قدر الآمال التي وضعها فيه ناخبوه، إذ لم يتمتع بالكاريزما اللازمة لإنفاذ الاتفاقات مع روسيا، بل على العكس، مثل انتهازية سياسية ولعب على التناقضات بين روسيا والغرب من جهة، ومحاولة إرضاء المشاعر المناهضة لروسيا في غرب أوكرانيا، ما أدى إلى تدهور الاقتصاد وانفجار الأوضاع الاجتماعية نتيجة غياب الخطط التنموية الشاملة.
تدرك روسيا أن الغرب وأعوانه يعملون على الضرب تحت الحزام مستغلين الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أوكرانيا تحت حجج الديموقراطية والانضمام إلى الغرب، ويمثل ذلك هاجساً امنياً كبيراً لموسكو. ولا بد هنا من الاشارة إلى الدور الخليجي والسعودي في هذه الحرب على روسيا، وليس بعيداً ذلك الوقت الذي حاولت فيه دولة قطر عقد اتفاق مع اوكرانيا لاقامة محطة تخزين للغاز القطري على أراضيها من أجل نقله إلى أوروبا لتضرب بذلك خط نقل الغاز الروسي. اما السعودية، فتتولى دعم الجماعات الوهابية الارهابية جنوب روسيا والاقلية المسلمة في اوكرانيا، وتجدر الاشارة هنا الى تهديد رئيس الاستخبارات السعودي بندر بن سلطان روسيا في لقائه الاول مع بوتين بضمان أمن دورة الالعاب الاولمية الشتوية في سوتشي في اذار العام القادم، تلك المدينة الواقعة على البحر الاسود، والمشاطئة للساحل الاوكراني، وبناءً عليه يمكن ان نتوقع حجا وهابيا مسلحا الى جنوب اوكرانيا لضرب الامن خلال الالعاب الاولمبية، مستغلة الاوضاع القلقة وانفجار الاوضاع السياسية والاجتماعية في اوكرانيا.
تدرك روسيا ان معركة أوكرانيا هي معركة حلف الناتو الاخيرة في التوجه شرقاً، وبانتصار روسيا فيها ستبدأ هجوماً معاكساً يعيد إليها دورها الاوروبي في محيطها التاريخي، بل سيتجاوزه، كما سيدفع بالدور التآمري لدول الخليج إلى الخلف، ويضعها في حالة الدفاع عن النفس ومحاولة النجاة امام القوى الدولية والاقليمية الصاعدة، ما سينعكس ايجابياً على عالمنا العربي في الصمود أمام سطوة البترودولار، وهمجية الوهابية وتخلفها.