لا ينبغي أن تمرّ وفاة نلسون مانديلا من دون إثارة نقاش في لبنان، لما لتجربته من أهمية في الدروس التي تقدمها، وذلك في ميدان حل «النزاعات الإثنية» وإعادة البناء الوطني. تكتسب تجربة مانديلا في جنوب أفريقيا أهميتها الكبرى من أنها جاءت عكس التيار، وأرست وقت تحقُّقها في التسعينيات، نقيضاً لما كان يحصل، من ضرب لوحدة المجتمعات على قاعدة «التعددية الثقافية الليبرالية»، وفرط للعديد من بلدان العالم إلى مكوناتها «الإثنية».
وحده مانديلا، في قيادة دولة جنوب أفريقيا، مشى عكس التيار، وأصرّ على الإبقاء على نموذج الدولة الوطنية وتجديده. وفي هذا درس لجميع بلدان العالم ونخبها، وأمل للإنسانية بمستقبل أفضل.

مانديلا وديزموند توتو

تربّى مانديلا في بيئة تقليدية، كان يحتل فيها موقعاً يبرر إعداده لموقع القيادة. وتربّى على قاعدة الاحترام لشخصه. وكانت النتيجة ممتازة، لجهة نشوئه على الاحترام للآخرين والمسؤولية تجاه قومه. خلال سنوات سجنه الممتدة على ثلاثة عقود، أُتيح له الاختلاء طويلاً بنفسه، ما أعطاه كل ذلك السلام الداخلي الذي كان يشع منه، ويلمسه من يلتقي به. ليس أفضل من الأديب الروسي ألكسندر سولجنتسين في مدح فضائل السجن.
أعطته تجربته أيضاً تلك القوة النفسية التي جعلته يخوض معركة تغيير نظام الحكم، وسط شروط فظيعة من العنف السياسي والأهلي. حين وافق البيض على التفاوض معه للتغيير، لم يكن شيء قد انتهى، بل كانت البداية، وكانت متعثّرة. وقد رفض توقيع اتفاقيات وهو سجين. وحين خرج إلى الحريّة، كان ينبغي خوض جولة طويلة أخيرة من المفاوضات مليئة بالدم، لإسكات رافضي التغيير من البيض المتعنّتين. وهو توّج سنوات النضال خارج السجن، بفرض انتخابات تقليدية أتت به رئيساً للجمهورية، بالأكثرية العددية البسيطة، وذلك في عمر الستة وسبعين عاماً. وحين جمع كل المسؤولين السابقين في أول مجلس وزاري بعد انتخابه، تحقّق الكلّ من استثنائية ذلك الرجل ذي الشخصية الآسرة.
الشخصية الأخرى المذهلة والاستثنائية، التي بقيت أحياناً في الظل إزاء نجومية مانديلا، هو الأسقف ديزموند توتو. على مدى السنوات الطويلة، حين كان مانديلا ورفاقه في السجن، كان هو في الخارج، يقود الجماهير ويخطب فيها، ويقدم لها الأسس والمبادئ التي تقود نضالها. ليس ثمة أقرب إلى القلب من ذلك الرجل الضئيل الحجم، الذي كان يصرخ على المنابر. أتاه كل ذلك مما تعلّمه وعاشه كرجل دين.

دروس التجربة

كانت ذروة الانتصار للمسار الذي أرساه مانديلا، انتخابه رئيساً للجمهورية بـ60% من الأصوات، على أساس النظام الأكثري التقليدي، حيث تواجَه حزبان كبيران. في مواجهة الأقلية البيضاء وجنونها وعنصريتها ورفعها كل الحواجز، وإقامتها كل أنواع التمييز بين المواطنين، أصر مانديلا على أن الكلّ متساوون، ولم يشأ إدخال أي تمييز على أسس عرقية أو ثقافية في نظامه. أرسل مشاريع الآبهارتهايد لجنوب أفريقيا إلى سلّة المهملات.
إنجازه الآخر الهائل هو إقامة «لجنة الحقيقة والمصالحة»، التي كانت لجنة قضائية تستمع إلى اعترافات المنخرطين في أعمال العنف السابقة، وبينهم مجرمون عتاة وأعداء للإنسانية. لم تكن اللجنة تحاكمهم، بل تفسح المجال لكي يتواجهوا مع ضحاياهم السابقين. كانت الاعترافات بالجرائم المرتكبة تحصل أمام المجتمع بأسره. والقاعدة أن المجرم السابق، كان يبكي أمام الجمهور، ويُعلن التوبة ويطلب الصفح.
ليس أفضل من تجربة جنوب أفريقيا في الإصلاح، لإعطاء قوة للمؤمنين بنموذج الدولة الوطنية الكلاسيكي ومزاياه.